شواهد أثرية من وادي حضرموت .. اكتشاف موقع أثري في حصن فلوقة إحدى ضواحي تريم يعود إلى عصر ما قبل الإسلام

> «الأيام» د. عبدالله كرامة التميمي:

> مدينة تريم من المدن اليمنية القديمة المشهورة وجاء ذكرها في النقوش الحميرية بلفظ «ترم» أي «تريم» وذلك لأن من خاصية اللغة اليمنية القديمة عدم كتابة أحرف المد «الألف والواو والياء» ولم يعثر حتى الآن على نقش حضرمي يذكر هذه المدينة ولعل عزاءنا في ذلك أن هذه المدينة الأثرية والمهمة على مر العصور التاريخية لم تحظ بدارسة تاريخية علمية أثرية توضح دورها الريادي في مختلف مناحي الحياة ولا أدل على ذلك من شاهدها الماثل أمامنا اليوم والمتمثل في منارة المحضار ذلك الصرح العمراني الفريد.

ولا شك في أن آثارها القديمة مازالت كامنة تنتظر من ينفض التراب عنها. ومنذ أن تخصصت في التاريخ القديم بدأت أتطلع إلى هذه المدينة خاصة بعد ذكرها في النقوش الحميرية من بين المدن التي اكتسحها الجيش الحميري في القرن الرابع الميلادي .

وكانت الصدف هي التي تقودني إلى بعض الاكتشافات الأثرية في ضواحي هذه المدينة فقبل سنوات وفي أثناء دراستي للدكتوراه في جامعة تونس كتبت على صفحات هذه الصحيفة القديرة موضوعاً عن اكتشافي مواقع أثرية وبشواهد حية في كل من (باعلال ومشطة) واليوم أضع بين أيديكم موقعاً أثرياً جديداً ، لا يبعد سوى 3 كيلو مترات عن مدينة تريم بجوار قرية تسمى «حصن فلوقة».

وقادتنا الصدفة مرة أخرى لاكتشاف هذا الموقع الأثري عن طريق العثور على شاهدين أثريين في موقع جبلي بجوار القرية يطلق عليه السكان (شحرة باجمال) وهو عبارة عن منعطف جبلي يتحول إلى شلال ماء عند هطول الأمطار.

لقد لفت انتباه أحد سكان القرية ويدعى (سالم بن عائض العامري) وجود حجر مشذب بين كومة أحجار حجمها 50سم*70سم تقريباً عليها كتابة بخط المسند وهذه الأحجار جلبها مواطن آخر من الموقع الجبلي ليستخدمها في بناء أساس بيته. وعند مشاهدتي لهذا الحجر إذا به نقش بخط المسند مكون من خطين معظم حروفه واضحة.

أما الشاهد الثاني فهو جزء من مذبح صغير من الحجر مكتوب على أحد جانبيه كلمة مكونة من أربعة أحرف بخط المسند تم العثور عليه تحت أحد البيوت.

وذهبت إلى الموقع بنفسي وبمرافقة المواطن العامري وأصبت بخيبة أمل لأن الموقع قد تم العبث به من قبل مشروع التنمية دون قصد وذلك بأخذ تربته الجبلية لاستخدامها في وضع حزام للمنطقة لحمايتها من السيول وما بقي عبارة عن كومة من الحجارة المختلطة بالتراب تركوها لكثرة الحجارة بها وفي هذه الكومة تم العثور على النقش، بينما المذبح عثر عليه مرمياً تحت بيت أحد المواطنين ضمن الحزام الترابي.

والملاحظات الأولية تدلل على أن الموقع أثري من خلال الحجارة المتناثرة المتبقية، كما لاحظت طبقات من الرماد على الجدار الطيني الباقي بل إن التربة المأخوذة من الموقع كانت مخلوطة بالرماد وهو أمر يوحي باحتمال حدوث حريق في الموقع.

وعثرنا على شاهد أثري ثالث عبارة عن «صدفة بحرية» مغروسة في الجدار المتبقي وكانت كبيرة ومجوفة، فمثلت دليلاً ثالثاً على أهمية الموقع كموقع أثري ولا شك أن هذه الصدفة سوف تساعد على تحديد تاريخ الموقع.

ولاحظت بقايا طريق يصعد إلى الجبل يصلح للمشاة وجمالهم.

وبسؤال أهل المنطقة قالوا إنه يسمى قديماً طريق القطار، ويقصدون به طريق القوافل التي كانت تمر بهذا الطريق بمحاذاة قريتهم المستندة إلى ظهر هذا الجبل حيث يصل بك هذا الطريق إلى سفح الجبل.

وربما يكون هذا الطريق أحد طرق اللبان القديمة التي تخترق وادي حضرموت وصولاً إلى ظفار بلاد اللبان.

ومن المحتمل أن هذا المكان كان عبارة عن محطة للقوافل خاصة وأننا وجدنا ما يشبه الاستراحة في وسط ذلك الموقع الجبلي.

وربما أقيم به معبد للإله سين إله حضرموت القديم وما يؤيد هذا الرأي العثور على الشاهدين وهما النقش وجزء من المذبح الحجري في الموقع.

وفيما يلي النقشين بالأحرف العربية:

-النقش الأول ويمكن تسميته بـ«نقش باجمال1».

سطر 1: ت/ب ذ ث ت ف/ع ذ ب/س ي ن

سطر 2:م ع س ر/ب ن/ذر هـ ن/ب ن

- النقش الثاني «باجمال2».

عبارة عن أربعة أحرف:«م ذ ي ر» مكتوبة على إحدى واجهات المذبح .

والقراءة العامة للنقش الأول يستشف منها أن شخصاً يدعى معسر بن ذرحان قد قام بإصلاح بيت الإله سين (أي المعبد) وهذا النقش غير مكتمل.

ومما لاشك فيه أن هذين الشاهدين الأثريين يعودان إلى فترة القرون الميلادية الأولى وذلك بالاستناد إلى طريقة الكتابة المستخدمة.

ولأول مرة بحسب علمي يتم العثور على نقش حضرمي يتحدث عن عبادة الإله سين في ضواحي هذه المدينة.

أما الشاهد الأثري الثالث فمن منطقة (سناء) التي تبعد عن مدينة تريم بنحو 150 كلم تقريباً إلى الشرق وتشكل هذه المنطقة نهاية وادي حضرموت وما يعرف بوادي المسيلة يأتي بعد (سناء) مباشرة ومنه إلى ساحل حضرموت.

وهذا الشاهد عبارة عن مذبح مكتمل برأس ثور ولأول مرة يتم العثور على مذبح مكتمل بهذه الصورة وعلى أحد جدرانه مكتوب خمسة أحرف بخط المسند «م ع د ر ث» ويمكن قراءتها بـ «معد رث» وهو اسم شخص ربما يكون هو صاحب هذا القربان، وعلى الواجهة الأخرى كلمة لم يبق من أحرفها سوى حرفين هما «هـ س»، ووجود الهاء في أول الكلمة يعد دليلاً على اللهجة الحضرمية القديمة، وللأسف كان هذا الشاهد الأثري بحوزة أحد المواطنين نقل إليه من (سناء) وهو لا يعرف المكان الذي عثر فيه على المذبح سوى أنه من (سناء).

ونترك للمتخصصين في النقوش اليمنية القديمة مسألة دراسة هذه النقوش وهي مازالت بحوزة المواطنين ، الذين سمحوا لي بتصويرها فقط.

وفي الختام أجد نفسي متسائلاً:

ألا تكفي هذه الشواهد الأثرية البينة الجهات المعنية للقيام أولاً بحماية ما تبقى في هذه المواقع ومن ثم القيام بالمسح الأثري لهذه المدينة وضواحيها . أملنا كبير في الاستجابة. والله الموفق.

أستاذ التاريخ القديم المساعد بكلية الآداب/ جامعة حضرموت

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى