البحث في سماء الجابري عن أغلى قمر

> «الأيام» عبدالرحمن إبراهيم:

> ربما لا يعرف الكثيرون من شعراء الحداثة المتأخرين (أقصد شعراء الجيل الجديد من الذين ظهروا في فترة ما بعد السبعينيات) أن الشاعر القدير الأستاذ أحمد الجابري، لم يكن ذا شهرة واسعة في ممارسة تجربته الشعرية الطويلة إلا من خلال إطار النص الغنائي الذي فيه طغت شهرته وذاع صيته، وامتدت بين الفئات الاجتماعية اليمنية في شتى مستوياتها وقدراتها الفكرية والذهنية والثقافية.

ولا ريب، بل من المؤكد أن أمراً كهذا يعزى إلى أن النص حينما يصاغ موسيقياً، وتتغنى به حناجر المطربين، لاسيما إذا كانت لهم رواج شعبي، ولهم تأثير جماهيري واسع، علاوة على ذلك أن الشاعر الجابري - لأسباب اقتصادية واجتماعية - لم يستمر في تواصله مع المطربين اليمنيين، وإن كنا على يقين بأنه لم ينقطع عن ممارسة العملية الشعرية، وهو في غربته عن وطنه اليمني الذي تغنى به وعبر عن ارتباطه وحنينه وحبه لليمن عبر قصائده العاطفية والوطنية. وليس أدل على ذلك - على سبيل المثال لا الحصر - قصيدته التي أثارت جدلاً واسعاً بعد أن شدا بها الأستاذ محمد مرشد ناجي والتي عنوانها «إليها»، وغيّر العنوان المرشدي إلى «لا تخجلي»، وهي من القصائد الجريئة التي كتبها الجابري كونها تنطوي على قضية أو ظاهرة اجتماعية في وقت مبكر وتحديداً في شهر مايو سنة 1960م. إنها قضية المرأة والحجاب، التي تجسد رؤية فكرية واعية، وموقفاً متقدماً من قضايا المرأة التي كانت - ولا تزال - تعاني من القمع والتسلط الذكوري البشع لاسيما في المجتمع اليمني.

«تعد قضية المرأة إحدى أهم القضايا، ولعل قصيدة (أغنية) «إليها» التي كتبها الشاعر الرقيق الأستاذ أحمد الجابري في القاهرة وبعثها للفنان محمد مرشد ناجي في شهر مايو عام 1960م حينما كان الشاعر طالباً في إحدى الجامعات المصرية، لعل هذه الأغنية خير دليل على الموقف الواعي الإيجابي من المرأة وقضية تحريرها من براثن الجهل والتخلف، وخير دليل على قناعته بدورها في المشاركة في البناء والتغيير الاجتماعيين إذا سنحت لها الظروف ومنحت حريتها في ممارسة حقوقها وواجباتها الوطنية (1). يقول في قصيدة «إليها» التي غير عنوانها المرشدي إلى «لا تخجلي» الأمر الذي جعل الجابري يكتب قصيدة أخرى بنفس العنوان وجدناها في مجموعة الأولى واليتيمة - حتى الآن- والمنشورة عام 1968، وهي تختلف عن «لا تخجلي» يقول:

«لا تخجلي ودعي الخمار دعيه لا تتصنعي

أيسوء أني قد طلبت أنا الهوى بتسرعي؟

وخشيت أهلك إن دروا أن قد أتيت هنا معي

تتحدثين عن الهوى ما أنت! إن لم تصنعي

فالحب أن أدعوك جهراً كي ترين (هكذا) توجعي

يغفو على عيني ويصحو مرة في مدمعي

ماذا إذا زعموا الهوى إثم (هكذا) بما لم تدعي

ألجهلهم يفنى الهوى، ويموت خفقُ الأضلع

ما أنت أول من أبتْ، أو كنت آخر من تعي».

(سيلاحظ القارئ أننا وضعنا بعد لفظتي (ترين) و(إثم) هكذا، لأنهما ليستا صحيحتين. فلفطة ترين جاء قبلها حرف نصب، فينبغي أن تكون تري أما لفظه إثم فينبغي أن تكون إثماً، لأنها مفعول ثان للفعل زعموا الذي ينصب مفعولين) (2).

مفهوم الشعر عند الجابري:

منذ أول مفهوم، أو تعريف وضعه الأقدمون «الشعر هو الكلام الموزون المقفى..» وهو تعريف ينطوي على البدائية والعفوية - مع إجلالنا وتقديرنا للتعريف وواضعيه - يسيء للشعر.

نقول إن مفهوم الشعر منذ ذلك الحين حتى اللحظة الراهنة لم يحدد تحديداً اجتمع حوله الشعراء والنقاد.ف في كل مرحلة نقرأ تعريفاً أو مفهوماً جديداً، فما لنا بالتعريفات العصرية. بمعنى أن مفهوم الشعر مفتوح في كل مرحلة وكل عصر.

فمثلاً هناك من عرّف الشعر في صدر الإسلام بما مفاده هو كلام يجيش به الوجدان وتنطلق به اللسان، وهذا التعريف قد اطلعنا عليه عند أحد النقاد الفرنسيين. وهو يتفق إلى حد كبير مع تعريف الشاعر الصحابي عبدالله بن رواحة (رضي الله عنه) وثمة تعريف لطيف لأحد الشعراء المحدثين يقول: أن تكتب شعراً، يعني أن تمسك قلماً وترسم إلاهاً وبرتقالة والشعر في اعتقادنا حالة وجدانية تترجرج في الروح حتى تختمر، وتلقائياً تخرج إلى الخارج (خارج الروح الإنسانية).

وفي أحد تعاريفه للشعر يرى أستاذنا الدكتور عبدالعزيز المقالح أن «الكتابة الشعرية إذن، فعل إبداعي حديث ومتجدد وغير متعارض أو متناقض مع ما سبقه من أفعال الإبداع عند الكتاب، وهذا لا يعني بالضرورة أن كل فعل إبداعي لا يستطيع أو لا ينبغي أن يكون مغايراً لذلك الذي سبقه أو غير متجانس معه، لأن لكل عمل إبداعي صوته الخاص الذي يعكس إيقاع الحياة المتطورة أو المتخلفة على امتداد آلاف السنين» (3).

أما الشاعر الأستاذ أحمد الجابري في تعريفه اللطيف الطريف الذي أورده في غلاف مجموعته الوحيدة (اليتيمة) الأخير بعنوان (لا تقرأ هذا..)، وهنا تكمن طرافته يقول:«سألني أحدهم: ما هو الشعر؟ قلت له: ليس للشعر تعريف، ولكن له وجود. فالشعر انفعال الدهشة، نحسب به ولا ندركه والشاعر إنسان يحس بالبكاء فلا يبكي ويشعر بالسخط فلا يغضب. وهذه دوافع الانفعال بالشعر. فإذا ما تعلقت عيناك في الهواء أمام لوحة زيتية على جدار، أو امتدت يداك، دونما وعي منك، إلى ديون شعر، أو شعرت بارتخاء في عضلاتك المشدودة لرائحة عطر أخاذ من زجاجة.. فاعلم أنك لا تصنع هذا بوحي إرادتك، وإنما هي الدهشة تجعلنا هكذا. أما إذا كنت غير هذا أو ذاك.. فرداً عادياً لا تثيره العيون. تهزه الأنامل. ولا تحفر في لبه روائح العطر فلا تنتظر مني شيئاً، لأنني لا أبيع في حانوت. ولاأاقامر في ملهى.

وعليّ أن أهمس في أذنك، بلطف بالغ، وأقول لك لا تقرا هذا فأنا لا أخدعك» (4).

بهذا التعريف اللطيف البسيط في تعابيره التي تكاد تقترب من التعابير الشعرية التي لا تخلو من صدق الإحساس ونبض الوجدان. وما علينا إلا البحث في تجسيدات هذه الرؤية، من خلال التأمل العميق والاستقراء الجاد في سطور قصائد مجموعة «أغلى من القمر» التي تضم اثنتي عشرة قصيدة نشرها في شكل متواضع يعكس طبيعة ظروف الطباعة في الستينيات، وإمكاناتها البدائية ونعتقد أنه، على سبيل الوفاء، صدّر الشاعر إهداء مجموعته إلى أستاذه لطفي «الإهداء: إلى أستاذي الشاعر لطفي جعفر أمان الرجل الذي علمني كيف أصنع الحروف عالماً، بلون القمر الفضي ليمتد بي عبر كل محيط وفوق كل سماء. اعترافاً مني بالجميل».

وإذا ما نظرنا إلى قصائد «أغلى من القمر» في السياق الزمني الذي كتبت خلاله، نجدها تدور في التجربة الشعرية العربية العامة التي كانت سائدة في نهائيات الخمسينيات من القرن الفارط، وهي لا تختلف عن تجارب الشعراء اليمنيين الذين خرجوا من معطف حداثة السياب ونازك الملائكة وعبدالوهاب البياتي وصلاح عبد الصبور مع الأخذ بنظر الاعتبار بخصوصية المعاناة الفردية لكل شاعر.

ولعل وقفة متحمسة لجيلي الخمسينيات والستينيات اليمنيين من القرن الفارط ستؤكد ذلك. وهذا الأمر لا يقلل من مكانة شعرائنا من جيل ارتياد القصيدة الحديثة ليس على مستوى اليمن، وحسب بل على مستوى كافة الأقطار العربية، ولكي لا نسترسل كثيراً، لأن المجال - هنا- لا يتسع سنكتفي بهذا القدر النظري وسنحاول مغامرتنا في الغوص في حنايا بعض قصائد أغلى من القمر، علماً بأن الاحتفاء بشاعر بحجم الجابري يحتاج إلى دراسة أو دراسات على أقل تقدير إذا لم يكن الاحتفاء به بواسطة كتاب يستطيع مؤلفه أن يتناول تجربته الشعرية والإنسانية، وهي تجربه حبلى بالمواقف الإنسانية والإبداعية لاسيما أن للجابري نتاجاً كثيراً موزعاً في معظم الصحافة اليمنية. (يتبع)

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى