المتنبي يرثي جدته (2)

> «الأيام» عبده يحيى الذباني:

> طوى المتنبي المسافات والمراحل، وحينما قرر العودة إلى الكوفة في نهاية المطاف قتل في الطريق المؤدي إليها من بلاد فارس على يد عصابة من قطاع الطرق أغلب الظن أن للسياسة يدها في هذه الجريمة. كل هذا وجدّته المدلهة المشتاقة تنتظره في الكوفة وقد أخذ منها الزمن عمرها وطائرها الوحيد الذي حلق في الآفاق، كانت أضعف من أن تستقبل أخبار العودة وأن تصدق البشير فماتت فرحاً، في حين أن المتنبي نفسه لم يعد كما ذكرنا فما أن تناهى خبر وفاتها إلى الشاعر حتى سطر قصيدته الخالدة يرثيها رثاءً جديداً جمع بين الحكمة وفلسفة الحياة والفخر الفريد، والوعد الوعيد لأعدائه وأعداء جدته بما فيهم الحياة نفسها، حتى الموت نفسه لم يسلم من هجوم المتنبي، وما أعجب أن يبدأ قصيدته بقوله:

ألا لا أُري الأيام حمداً ولا ذمّا

فما بطشها جهلاً ولا كفّها حلما

لقد باتت الضديات عنده شيئاً واحداً، لأنه ينظر إلى جوهر الأشياء ولا يأبه بمظاهرها، ولم يفرض عليه الرثاء مطلعاً آخر بل هو الذي فرض على الرثاء هذا المطلع الجديد انطلاقاً من فهمه للحياة والشعر على حد سواء.

لقد أبى إلا أن يكون فيلسوفاً في مدحه وهجائه ورثائه ووصفه وحتى في غزله، فقد قال متغزلاً:

وما العشق إلا غرّة وطماعة

يعرض قلبٌ نفسه فيصابُ

وقال أيضاً:

مما أضر بأهل العشق أنهمُ

هووا وما عرفوا الدنيا وما فطنوا

قال فيما قال في رثاء جدته:

لك الله من مفجوعة بحبيبها

قتيلة شوق غير ملحقها وصما

أحن إلى الكأس التي شربت بها

وأهوى لمثواها التراب وما ضما

بكيت عليها خيفة في حياتها

وذاق كلانا ثكل صاحبه قدما

هكذا هو رثاء المتنبى مزيج من الفلسفة والحكمة والدموع، يقول الشاعر مشيراً إلى بعض خصال مرثيته، وإلى مكانته منها ومكانتها منه، وإلى تجربتهما القاسية مع الحياة، ومصوراً وقع الحدث في نفسه:

ولو قتل الهجر المحبين كلّهم

مضى بلدٌ باق أجدّت له صرما

منافعها ما ضر في نفع غيرها

تغذى وتروى أن تجوع وأن تظما

عرفت الليالي قبل ما صنعت بنا

فلما دهتنا لم تزدني بها علما

أتاها كتابي بعد يأس وترحة

فماتت سرورا بي فمتُّ بها غمّا

حرام على قلبي السرور فإنني

أعدُّ الذي ماتت به بعدها سما

ثم يعود الشاعر إلى التهديد والوعيد والفخر وقد أشرك جدته المرثية في هذه المواجهة من خلال ذكر مواقفها في الحياة وجلدها وصبرها وحكمتها، فإذا كان وراء كل رجل عظيم امرأة فإن وراء عظمة المتنبي تقف هذه المرأة العربية العراقية القوية التي تشرّب منها الشاعر صفاته الإنسانية الخالدة المتفردة.

كل عام وقراؤنا الأحباء والجميع بخير.

[email protected]

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى