كــركــر جـمـل

> عبده حسين أحمد:

>
عبده حسين أحمد
عبده حسين أحمد
ماذا أكتب في أربعينية الفقيدة المناضلة سعيدة محمد عمر جرجرة (الشيبة).. بعد أن ملأ الكتَّاب والأدباء والشعراء صفحات «الأيام» بالمرثيات الباكية والحزينة.. رحلت أم هشام وكنت بعيداً خارج البلاد ونزل الخبر علي كالصاعقة.. فلم تكن أم هشام وتمام فقط.. ولكنها كانت أمنا جميعاً.. وأوجعنا رحيلها وضاعف حزننا عليها.. وتعطلت حواسنا وأصبحنا لا نرى شيئاً أو نسمع شيئاً يستحق الاهتمام عند وفاتها.. فقد كانت هي عقولنا التي تفكر وعيوننا التي ترى وآذاننا التي تسمع.. ولا أحد يصدق أن أم هشام كانت أول من يقرأ صحيفة «الأيام» قبل أن تنزل إلى السوق.. كانت تفرد صفحاتها بأصابعها في الصباح الباكر ثم تلتهم سطورها من الغلاف إلى الغلاف.. وفي الظهيرة تجلس توجه وتوضح وتنتقد.. والذي كان يجب أن يكون.. والذي لا يكون.. كانت هي الأم والمعلم والصحفية الأولى.

< ودار شريط طويل من الصور والذكريات في رأسي.. وتصورت البيت بعد رحيلها وقد اختفى البهاء والرونق والجمال والكمال.. وكأن البيت قد فقد بريقه ولمعانه.. كل شيء فيه تافه بلا قيمة ولا وزن.. وكأن السماء قد انطبقت على الأرض.. فلم يعد لشيء وجود في الغرفة التي تجلس فيها.. المقاعد فارغة.. والسرير فارغ.. والدواليب فارغة.. بلا قماش ولا أحذية.. وكل شيء تلاشى وضاع.. حتى نور الشمس توارى حزناً عن الغرفة.. وانسحب الهواء إلى الخارج.. وخيم على البيت سكون هادئ وثقيل.. وأصبح خالياً من كل معنى وقيمة.. فقد كانت هي القيمة والمعنى.. هي أساس البيت وأركانه وزواياه وآفاقه وأبعاده.

< رحلت أم هشام ولكن صورتها مازالت في أعماقنا وفي عيوننا.. ومازال كلامها في آذاننا ووجداننا.. وكانت في رحليها قد تركت التعاسة والحزن في نفوس الذين عرفوها عن قرب.. انطفأت البهجة في نفوسهم.. وماتت في عيونهم الحياة.. كانت شيئاً آخر من النساء.. كانت تفهم وتدرك ما لا يفهمه ولا يدركه أكثر الناس.. وكانت أطول قامة وأقوى إدراكاً وأعمق بصيرة.. وأكثر حناناً وعطفاً وكرماً على الفقراء والمساكين.. كانت تصرف على المحتاجين أكثر مما تصرف على نفسها.. وكانت تصرف الكثير والكثير من قلبها وروحها على أبنائها وبناتها أطال الله أعمارهم.

< ولقد حزنت كثيراً في حياتي.. ومع مرور الزمن حاولت أن أدفن أحزاني.. ولكن شاء القدر أن يجدد هذه الأحزان بعد أن طويتها في أعماق قلبي.. وقد حزنت كثيراً عندما رحلت هناء هشام باشراحيل وهي في ربيع عمرها.. كنت أحبها من قلبي مثل واحدة من بناتي.. وشاء القدر ألا أشارك في تشييع جنازتها إلى مثواها الأخير في عدن.. كنت بعيداً في صنعاء.. وكانت الوفاة فجأة.. وما أن سمعت الخبر غادرت صنعاء على جناح السرعة لتقديم واجب العزاء.. فقد كنت أعرف وقع وفاتها على أبيها وعلينا.. ثم شاء القدر مرة ثانية أن ترحل أم هشام وأنا بعيد ولم أشارك في جنازتها.. واتصلت هاتفياً بالأخ والصديق العزيز هشام معزياً بهذا المصاب الجلل.. فقد كان موتها إحياء للحزن على أمي وعلى كل الأمهات.. وكانت (هناء) مثل جدتها (سعيدة) رحمهما الله.. كانت القلب في قبوة الكاذي.

< رحم الله سعيدة جرجرة رحمة الأبرار..

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى