سوق السبت متحف حي لتاريخ الصبيحة ومعرض متحرك لحياة ثرية بالتنوع (2-4)

> «الأيام» علي الجبولي:

>
طاقات شباب وبراعم طفولة تهدر في تلميع أحذية
طاقات شباب وبراعم طفولة تهدر في تلميع أحذية
سوق السبت، أشهر وأكبر سوق شعبي في الصبيحة، ما زال يشبه كثيرا الأسواق التي عرفها العرب في الجاهلية. ويعد معلما بارزا من معالم الصبيحة يرتبط فيه الحاضر بالماضي بروابط مقدسة يرفض الفكاك منها وبملامح المستقبل بخيوط واهية لا تكاد ترى، فهو شاهد تاريخي على أنماط متنوعة من الحياة ومتحف حي يوثق لكثير من العادات والتقاليد الشعبية وما تميزت به منطقة الصبيحة، بل معرض متحرك لملامح حياة ثرية بالتنوع في شتى المناحي الاجتماعية والطبيعية والاقتصادية والثقافية في الصبيحة والمناطق المتصلة بها. في هذا التحقيق تطوف «الأيام» في أغوار ماضي وحاضر سوق السبت لتضع بين يدي القارئ الكريم قطوفا دانية مما تيسر الوصول إليه من ملامح مشاهدة على مر تاريخه. ومعها لقطات من ملامح المكان الذي نشأ ومازال يقام فيه .

محمد عبد الولي يتسوق السبت
في أحد أيام السبت من عام 1960م حملت الصدف محمد عبد الولي رائد القصة القصيرة في اليمن إلى سوق السب، كان مسافرا من عدن عبر الصبيحة إلى بلدته (الاعبوس) بشمال الوطن، وكانت سيارات الأجرة
يومذاك من نوع لندروفر كثيرا ما تغرز عجلاتها في رمال طريق امرجاع، والسفر من عدن إلى الصبيحة والعكس ينطلق عصرا خوفا من قيظ صحراء خبت امرجاع وغوص عجلات اللاندروفر في رماله. ما أن وصلت السيارة إلى وادي الصميتة أو(الزميطة) كما ينطقه كثير من المسافرين ـ نحو 18 كم جنوب سوق السبت ـ حتى تعطلت ما أجبر ركابها على إكمال سفرهم سيرا على الأقدام إلى سوق السبت. تحت اقرب عشة مقهى رمى محمد عبد الولي جسده المنهك، وبينما هو داخل عشته وحركة السوق في ذروتها استوحى فكرة قصته (سوق السبت)، التي زخرت بملامح الشخوص والبيئتين المكانية والزمانية للسوق. وفي تلك القصة عرض لحقبة من تاريخ الصبيحة حينما صور مشهدين بارزين لتلك الحقبة الأول مشهد القوات البريطانية، والثاني زمن الغيل في المنطقة الذي عرف بـ (امعادي). كان وادي معادن المنحدر من جبال جنوب تعز كخط تماس شرقي لسوق السبت ما يزال في أوج مجد الغيل، الذي ظل ينبع من وادي الضباب بشمال اليم متدفقا في وادي معادن بطول يزيد عن 70 كم لعدة عقود ليسقي أراضي شاسعة في الصبيحة قبل أن يجف في منتصف عقد الستينات. وفي إشارة إلى ازدهار معادن في تلك الحقبة قال الأمير أحمد فضل القمندان :

نزفت بالدلاء بير امشاريج

قال عمي اذهبوا إلى بير خالي

أدركونا ادركوا بماء معادن

إن حللتم غوامــض الإشـــكـال

الحمار لن يتخلى عن دوره في سوق السبت
الحمار لن يتخلى عن دوره في سوق السبت
في زمن هذا الغيل عاشت الصبيحة مجدها الذهبي، حيث استصلحت أراض شاسعة على ضفتي وادي معادن رويت بالغيل، بل امتد الري إلى أراض أخرى خارج ضفتي الوادي حتى وصل إلى منطقة المكحلية ـ نحو 40 كم جنوب مدينة طور الباحة ـ ومناطق أخرى، من خلال استحداث أعبار (قنوات) شهيرة لم تُمح ملامح آثارها حتى اليوم.

من داخل العشة رسم محمد عبد الولي ملامح لوحة للبيئتين الطبيعية والاجتماعية لسوق السبت «سقيفة مقهى، طاحونة ضجيجها يصم الآذان، طنين الذباب، الصقور تهبط من ارتفاعها لتنقض على البقايا المتناثرة، رائحة العفونة، رائحة الدم، السوق بضجيجها تثير الغثيان ،أصوات المشترين، نداءات الباعة، أصوات بائعات الفواكه والخضراوات يخنقها السعال وهن في ملابس سوداء، أصوات الصقور، أصوات الأطفال، الصراخ، أصوات الماشية، مربط حمير، مجزرة تنبعث منها رائحة عفنة من رائحة الدم المراق من الذبائح مع الأوساخ المتعفنة، الذباب يداعب عيون الناس وأنوفهم، نهيق الحمير وهي تتغازل، وامرأة سمراء صغيرة نحيلة الجسم في ملابس سوداء على وجهها حرمان سنوات الشباب تختلس النظر إلى ما يدور، شمس تحرق الأرض، سيارات تخترق السوق إلى معسكر وعليها جنود حمر الوجوه، صوت مزمار مع دف وأغنية تهامية، رقصة شابة سمراء تلمع عيونها السود وهي تغمز وحركات جسمها مثيرة وفمها نصف المفتوح ولسانها وهي تمر به على شفتيها، امرأة شابة في الثلاثين يلمع في عينيها الظمأ، وشابة في العشرين ترقص وفي عينيها السوداوين نداء، شفتاها خطيئة وجسمها جحيم من اللذة، أطفال زرق الوجوه نحيلو الأجسام حفاة، نساء يتساقط الزيت تحت أشعة الشمس من شعرهن على الوجوه فيزددن بشاعة، رجل كريه يمسكه راجيا أن يشتري منه شيئا ما، طفل يجري خلفه مادا يديه وفي عينيه بكاء، خادمة تحمل فوق صدرها طفلا نصف نائم ونصف ميت ووجهه يصرخ بالألم والمرض، ماشية تباع وقد أنهكها المرض».

في سبتيته أو تسوقه السبتي لم يكتف محمد عبد الولي برسم مشاهد حسية خارجية لبيئة سوق السبت، ولكن رسم لوحة نابضة بالحركة، فواحة بالروائح، صاخبة بالأصوات، مزخرفة بالألوان.

بل غاص في أعمق أعماق المكان وشخوصه وما يعتمل فيه من تفاعلات وانفعالات، وفي استقراء نوازع شخوصه إلى ما هو ابعد، متخذا الطبيعة معادلا موضوعيا لحالته المتعبة بالغربة ووعثاء السفر والشوق للزوجة.

فإذا به يجعل من واقع بيئة سوق السبت لحظة من لحظات متاعبه وعذاباته.

لم يستعر محمد عبد الولي بطلاً يتخفى خلفه لسرد قصته،ولكن بأسلوب السرد المباشر رسم مناظر ومشاهد تجسد صياح الباعة والمشترين ،القذارة، الروائح الكريهة، الأجساد النحيلة، الذباب، مرض الأطفال، مرض الماشية، نهيق الحمير، ضجيج الطواحين .. بعدسة حسية التقط من السوق مشاهد بيئية وطبيعة وسجتماعية تحفل بصور التخلف والفقر وقذارة المكان والبؤس، ملامح حية لبيئة السوق وشخوصه كانت ومازالت ملامح بارزة لسوق السبت، علاقتها رابضة في المكان والزمان وتصر على ألا تنفصل عرى هذه العلاقة الجدلية في قريب منظور.

الجمّال في سوق القصب شرع بتحميل جمله
الجمّال في سوق القصب شرع بتحميل جمله
ترى لو قدر لمحمد عبدالولي أن يبعث من قبره بعد قرابة نصف قرن ويزور سوق السبت مرة ثانية هل سيجد تغييرا جوهريا قد طرأ عليه؟

أم سيجده كما تركه لم يغادر الزمان والمكان ولم يحدث فيه سوى تغيير شكلي، لعل أبرز مظاهره جلاء الجنود الحمر (الإنجليز) عن معسكرهم في أكمة السوق، وتوقف تساقط الزيت من شعر المتسوقات الصبيحيات بعد أن عجزن عن شرائه لارتفاع سعره مئات أضعاف سعره في تلك الفترة. بقاء الحال هذا لا يفهم كنهه هل هو ضرب من الوفاء لعهد على البقاء كما صورته قصة محمد عبدالولي، أم علاقة حميمة بالماضي وتهيب من مغادرته؟.

بعد نحو ربع قرن من تسوق محمد عبد الولي، أديب آخر يتسوق السبت هو الكاتب الأديب ميفع عبدالرحمن، لا أظن أن رحلة ميفع كانت افضل حالا من رحلة عبد الولي باستثناء سياره السفر ربما كانت تويوتا صالحة إلى حد ما في طريق خبت امرجاع الشاسعة ـ طبعا قبل الاستيلاء عليها وبيعها ـ أتخيله يغذ الخطى في الصحارى ولسان حاله يقول لا بد من سوق السبت وإن شق خبت امرجاع.

أثناء الرحلة جالت بذاكرة ميفع زيارة محمد عبد الولي ليدون خاطرته التي سماها (طور كتابة عن طور الباحة) يقول: «جاء الحديث عن سوق السبت فتذكرت رائد القصة القصيرة في اليمن، تذكرت قصته التي أطلق عليها اسم السوق نفسه ـ سوق السبت ـ إذن تعفر شعر رأس محمد عبدالولي وتعفرت ملابسه بغبار هذه القرية من قرى لحج، تنشق هواءها جائلا برأسه وعينيه هنا وهناك بين الجبال والرمال والقرى المتناثرة متطلعا متأملا».«على مسافة من الذات».. إلى هذه الدرجة لسوق السبت مكانة ومنزلة حتى يخلده سفر الأدب!

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى