في ذكرى أربعينية الفقيد عمر علي العطاس

> خالد أبوبكر باراس:

> يرحل رفاق النضال الوطني من أجل الاستقلال، الواحد تلو الآخر، قافلة طويلة من الرجال الأوفياء، يغادرون الارض التي من أجلها اختاروا الطريق الأصعب في حياتهم، للانخراط في الأنشطة الوطنية في مستهل ايام الشباب وريعانه. يفارقوننا تباعا تاركين لنا الذكريات الغالية وآلام الفراق وأحزانه ومتاعب الحياة وعناءها.

فجائع متواصلة تهز وجداننا كل يوم تقريباً، حتى أصبح معظمنا يتجنب قراءة الصحف اليومية كي لا يصدم بصورة أو اسم رفيق عزيز ينعاه الرفاق والأهل والأصدقاء .

واليوم وأنا أستعيد ذلك الشريط الطويل من الذكريات، بمرور أربعين يوماً على وفاة الفقيد العزيز اللواء الركن عمر علي أحمد العطاس، لا يسعني إلا أن أقول إننا قد خسرنا مناضلاً وطنياً جسوراً وقائداً عسكرياً ماهراً أسهم بفعالية في النضال الوطني لجماهير الشعب في جنوب اليمن من أجل الحرية والاستقلال الوطني، من خلال عضويته في التنظيم السري للجبهة القومية فرع المؤسسات العسكرية والأمنية في حضرموت الذي انظم اليه عام 1963م عند انطلاق الشرارة الأولى لثورة 14 اكتوبر من على جبال ردفان الشماء.

فقد أسهم الفقيد العطاس في عملية توسيع ذلك التنظيم وانتشاره داخل الجيش البدوي الحضرمي، وكسب الأعضاء والمؤيدين، وقد عرف - رحمه الله- بحماسه الوطني وتوجهاته السياسية في وقت مبكر من حياته، وكان إلى جانب مجموعة من أعضاء الجبهة القومية البارزين في جيش البادية الحضرمي قد استمالوا الكثيرين من الضباط وصف الضباط والجنود للالتحاق بتنظيم الجبهة ومناصرته، حتى أصبح هذا الجيش نهاية عام 1966م معروفاً بتأييده للثورة، فاستطاعت الجبهة القومية نتيجة لذلك وكذا تأييد بقية المؤسسات العسكرية والأمنية لها، أن تسيطر على حضرموت في وقت مبكر قبل إعلان الاستقلال الوطني بنحو شهرين.

وقد تعرض الفقيد العطاس للعديد من المضايقات بسبب نشاطه الواسع وتحركاته داخل الجيش وخارجه، ثم حوكم عسكرياً نهاية عام 1966م بسبب إخفائه برقية مهمة جداً أرسلت بالشفرة من مساعد المستشار البريطاني في سيئون إلى المستشار البريطاني المقيم في المكلا. كان يفترض أن تسلم إلى الجهة المرسلة إليها حال استلامها دون تأخير وفقاً للنظام المعمول به. لكن الفقيد العطاس المناوب في تلك الليلة أجل تسليمها إلى اليوم التالي وسلم نسخة منها لقيادة الجبهة في المكلا حال استلامها وفقاً لتعليمات قد أعطيت لمثل هذه الحالات.

وكان سيتعرض للفصل من الجيش لولا وجود قادة عسكريين مؤثرين حينها ولهم صلة بالجبهة حالوا دون ذلك، ثم إن تسارع الأحداث كان له تأثيره لصالح العطاس حيث تقرر إبعاده من المكلا إلى الغيظة في المهرة. وهناك انضم العطاس إلى قيادة الجبهة في المهرة وعمل معهم وشارك في تمكين الجبهة من الاستيلاء على السلطنة المهرية بعد استيلائها على حضرموت.

تعرفت على الفقيد المغفور له بإذن الله تعإلى اللواء الركن عمر علي العطاس عام 1959م أثناء دراستنا في مدرسة اللا سلكي التابعة لجيش البادية الحضرمي .. ولم تنقطع صلتي به منذ ذلك الحين، وعندما أصبح عضواً في الجبهة القومية أصبحت المسؤول التنظيمي عنه، وكنت أشرف على سير نشاط الإطار الذي التحق به وظل الأمر كذلك حتى إعلان الاستقلال الوطني في 30 نوفمبر1967م .

ظللنا أصدقاء ثم زملاء عمل فيما بعد عندما عُيّنّا في مناصب قيادية في القوات المسلحة بداية عام 1970م، أصبحت قائداً لسلاح المدفعية وهو صار قائداً لسلاح المدرعات.

وقد تدرج الفقيد في الرتب والمناصب العسكرية من رتبة ملازم أول عام 1968م حتى رتبة العقيد عام 1990م ثم رتبة اللواء والإحالة إلى التقاعد عام 2003م، كان قائداً لسرية مشاة ثم كتيبة فقائد لسلاح المدرعات عام 1970م .

في نفس العام ابتُعث للدراسة العسكرية العليا في أكاديمية المدرعات السوفيتية في موسكو تخصص قيادة وأركان، تخرج بشهادة الامتياز عام 1974م وواصل عملة قائداً لسلاح المدرعات. عام 1978م عُيّن ملحقاً عسكرياً في سفارة اليمن الديمقراطية الشعبية في موسكو. عام 1981م عُين نائباً لرئيس هيئة الأركان العامة لشؤون العمليات والتدريب. فواصل عمله في هذا المنصب الرفيع حتى 22 مايو 1990م حيث عُيّن مستشاراً لوزير الدفاع للجمهورية اليمنية.

اكتسب الفقيد العطاس الخبرة والكفاءة بعد عودته إلى سلاح المدرعات وتخرجه من الاكاديمية، وبرزت مهاراته وقدراته العسكرية والإدارية وما تميز به من صفات القائد العسكري تاركاً بصماته الواضحة في سلاح المدرعات.

وعندما عُين في رئاسة الأركان العامة في ذلك الموقع القيادي الهام، وجد الفقيد ضالته هناك، فأكد جدارته وبرزت مواهبه بحكم إشرافه المباشر على كل أنشطة القوات المسلحة لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية.

عرف الفقيد اللواء الركن عمر علي العطاس بدقة متابعته لأعمال المرؤوسين أثناء تنفيذهم لواجباتهم، وعدم تساهله مع المقصرين ولكنه لا يأمر مرؤوسيه بما لا يستطاع، فهو قبل ذلك يؤمن متطلبات التنفيذ ثم يصدر الأوامر.

لقد تميزت الفترة الممتدة من عام 1978م إلى 1985م بالأعمال الجادة التي كرست لبناء القوت المسلحة، بعد أن تعرضت لهزات عنيفة قبل ذلك أخلت بتوازنها وقدراتها القتالية وأفقدتها عدداً كبيراً من القادة والضباط ذوي الكفاءات، فأثمرت الجهود التي بذلت من أجل ذلك، حيث أعطيت الاهمية الأولى لإعداد القادة وتأهيلهم، فلم تأت نهاية عام 1985م إلا وقد احتل خريجو الأكاديميات العسكرية من مختلف التخصصات قيادة الوحدات من مستوى كتيبة فما فوق.

وهي الفترة التي عمل فيها الفقيد العطاس نائباً لرئيس هيئة الأركان العامة لشؤون العمليات و التدريب إضافة إلى وجود مجموعة من القادة العسكريين الاكفياء والمؤهلين تأهيلاً عالياً.

والفقيد العطاس معروف بعدة صفات يتميز بها، وهي أهم الصفات المطلوبة في القائد العسكري الناجح، أهمها الاطلاع الواسع المتجدد، ودقة الإشراف على سير تنفيذ المرؤوسين لمهامهم، والثقة بالنفس وسلامة القرار عند اتخاذه، والمعرفة الدقيقة لكل المرؤوسين ومستوياتهم المعرفية في مجال تخصصهم، وإعطاء المرؤوسين الصلاحيات الكافية والمحاسبة عند التقصير، وطائفة واسعة من الصفات القيادية التي تميز بها الفقيد وهي أساس نجاحه وتفوقه المشهود له به. فبالإضافة إلى معارفه العسكرية استطاع الفقيد العطاس أن يرفع من مستواه الثقافي ومعارفه العامة.

والفقيد المغفور له - بإذن الله تعإلى- لم يستطع مواصلة دراسته في بداية حياته، شأنه شأن نظرائه من أبناء جيله لانعدام المدارس في الأرياف ولأسباب أخرى كثيرة، لكنه استطاع التغلب على هذه المسألة بمثابرته المتواصلة وقوة إرادته ورغبته الجامحة في تحسين مستواه الثقافي مستغلاً كل الوسائل الممكنة. ومنذ أن عرفته وجدت فيه الشاب الطموح المجتهد، ولقد أثبت فعلاً أنه لا يستحيل على أصحاب الإرادات القوية أي شيء صمموا على تحقيقه.

ماذا بوسعي اليوم أن أقول عن شخص عزيز وغالٍ، بصفتي واحدا من أصدقائه ورفيقه في النضال الوطني وزميله في العمل والمهنة، بل إني أعد نفسي أقربهم جميعاً إليه.

لقد عاش الفقيد الغالي محباً لعمله وأصدقائه وأقاربه، مخلصاً لوطنه وشعبه، صافي السريرة، نظيف اليد، عزيز النفس، جادا وصارما عند اللزوم، مرنا وعطوفا وهادئاً عموماً .. وقد كانت وفاته بالنسبة لي فاجعة بكل المقاييس، صدمة لم أتعرض لمثلها في حياتي، فقد رحل كثيرون من الأصدقاء الأعزاء ومن الأهل والأقارب، ولكن الأمر هذه المرة مختلف تماماً. فالفقيد أبو خالد يختلف بالنسبة لي عنهم جميعاً، لكنها إرادة الله وحكمته، فلا اعتراض على حكم القدر، فهذه سنة الحياة وشريعتها. فلا باقي إلا الله وحده ولا دائم إلا هو الحي الذي لا يموت.

كلمة أخيرة أحرص أن أقولها، وهي أن ثقتي وإيماني بأن الشعوب والمجتمعات ذاكرة حية وأمينة قد ازدادت ثباتاً، فالشعوب لا تنسى أبناءها الأوفياء، تنصفهم عندما يتجاهلهم من يجب عليه إنصافهم وتقديرهم.

وإذا لم يجد الإنسان ما يستحقه من انصاف وتقدير وهو على قيد الحياة لأي سبب من الأسباب، كما هو الحال للفقيد اللواء الركن عمر علي العطاس وغيره كثيرون، فإن الشعوب لا تسمح بذلك. وقد رأينا كيف شيع جثمان الفقيد العطاس إلى مثواه الأخير في مدينة المكلا، وذلك الحشد الهائل من المشيعين الذين شاركوا فيه، وقد حضر الكثيرون منهم من العديد من المديريات. إنه الإنصاف والوفاء في أروع صورة له، ولا يغير من الأمر شيئاً إذا جاء بعد وفاته .

يرحل الناس عن هذه الدنيا وهي سنة الحياة، وتبقى أعمالهم الطيبة وذكراهم العطرة. وقد رحلت عنا أيها العزيز الغالي، تاركاً هذه الدنيا وعناءها ومتاعبها، وهنا أدعو لك الله في خشوع واستسلام لقضائه أن يغفر لك ويمنحك الرحمة ويسكنك واسع جنته، إنه سميع مجيب.

إنا لله وإنا إليه راجعون

اللواء الركن

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى