حضرموت في البال

> ريم عبدالغني:

>
ريم عبدالغني
ريم عبدالغني
الآن تبدو حلما..والبارحة كانت رحلة حقيقية.. في عالم خرافي..حضرموت في البال..رائحتها مازالت في أنفي.. ورمالها مازالت على أطراف أثوابي الطويلة.. الوجوه الطيبة.. النظرات الملأى بالفضول والدهشة.

الآن.. وبعد أن هدأت مجددا في ركني البعيد، أمسك قلمي.. افتح بحرص باب الذاكرة، لأخرج منه أيام حضرموت التي لا تنسى.. يوما بيوم.. وساعة بساعة.. بل ودقيقة بأخرى. أعصر الذاكرة كما كنت أعصر الزمن في سباقي المجنون نحو لحظة إقلاع طائرتي المغادرة.

كنت أريد أن أرى كل شيء.. أن أعرف كل شيء، أن أحتضنها وأبتلعها.. وألتحم بها، أن أشعر بها.. وأن تشعر بي، هذه الجبال العالية.. القاسية بحنو.. وهذه السهول الخضراء.. الطيبة بوحشية.

الرحلة ذاتها تكررت كل يوم على الطريق القديم المؤدي من سيئون إلى تريم، ومع ذلك كنت أعيد التهام كل شيء بعيني.. كل يوم أرى شيئا جديدا.. أرى لونا جديدا .. جمال غريب.. لم أر له مثيل قبلا.. لكني أعرفه حق المعرفة.. كيف؟؟ لست أدري.

لم أعرف أبدا أن أفسر الشعور الغريب الذي خبرته أول مرة منذ بضع سنوات، في زيارتي الأولى لحضرموت، واليوم يغمرني ثانية.. شعور غريب بالانتماء كأني خرجت من هنا أو كأني أشابه هنا .. أو كأني أجد امتدادا لما في داخلي في هذه التكوينات والألوان والجبال والبشر والروائح.

شعور تكرر كل صباح وكل مساء .. وكلما دخلت زقاقا أو مشيت في درب، كأني أعرف ما سأراه بعد كل منحنى.. وأدرك ما سأجده خلف كل باب موصد أدفعه..

الناس والأرض.. وكل ما في تريم كان متعاطفا معي حانيا علي..

كأن يداً خفية كانت تحيط بي وترعاني.. كأني كنت في حضن أبي..

احببت كل شيء.. حتى تعبي..

وحينما كنت أنهار متعبة في آخر الليل.. بعد نهار عمل مضن تحت شمس حارقة، كان ما يؤلمني حقا هو أن أعجز عن فتح عيني للتركيز على ورقة بيضاء.. أفرغ عليها سيل أحاسيس لا تنتهي..

شريكة رحلتي كانت ترمقني باستغراب وأنا اصف لها الأشياء حولنا.. كأنها لا تراها، كنت أحاول إيصال ما أبصره بكل «عيوني»، إذ أنه مكان لا ندركه بحواسنا الخمس الدنيا فقط .. بدا لي أنني أعرفهم واحدا واحدا .. الأطفال المتحلقون حولي في الأزقة الضيقة حيثما ذهبت.. والنسوة المختبئات باستحياء وبكثير من الفضول خلف ستائر النوافذ وسواد الحجاب، والرجال المرتبكون ما بين الترحيب والرفض.. ما بين حب الضيف والخوف من الغريب .. ما بين احترامهم للمهمة واستهجانهم لأنوثة حاملها.

لكني لم أكن غريبة عنهم.. وقفت في كل مكان.. صافحت كل طفل.. لوحت من بعيد للنساء في النوافذ .. سلمت على الرجال الجالسين أمام دكاكينهم.. اقتحمت تحفظهم.

كررت سلامي على من لم يجب..

وأصررت على أن أوصل إليهم محبتي..

قديما قالوا.. «تقول تريم.. ثم لا تعود (تريم) إلى سواها» (كلمة تريم الاولى تشير إلى اسم المدينة، وكلمة تريم الثانية بمعنى تتوق أو تشتاق) وها أنا أتوق إليها قبل أن أغادرها.. الطائرة أقلعت ووجهي ملتصق بزجاج النافذة.. أرقب الارض وهي تبتعد.. أحاول أن أرسم بذهني كل ما أستطيع اقتناصه في الدقائق الأخيرة المتبقية فوق حضرموت.. علّني أحملها معي.

حضرموت - فبراير 2000

[email protected]

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى