سوق السبت متحف حي لتاريخ الصبيحة ومعرض متحرك لحياة ثرية بالتنوع يا راهدة يا درب يا مدارة.. يا قلعة الأموال والتجارة

> «الأيام» علي الجبولي:

>
تنافر وتزاحم بين حلوى وكراث وساعات
تنافر وتزاحم بين حلوى وكراث وساعات
سوق السبت، أشهر وأكبر سوق شعبي في الصبيحة، ما زال يشبه كثيرا الأسواق التي عرفها العرب في الجاهلية. ويعد معلما بارزا من معالم الصبيحة يرتبط فيه الحاضر بالماضي بروابط مقدسة يرفض الفكاك منها وبملامح المستقبل بخيوط واهية لا تكاد ترى، فهو شاهد تاريخي على أنماط متنوعة من الحياة ومتحف حي يوثق لكثير من العادات والتقاليد الشعبية وما تميزت به منطقة الصبيحة، بل معرض متحرك لملامح حياة ثرية بالتنوع في شتى المناحي الاجتماعية والطبيعية والاقتصادية والثقافية في الصبيحة والمناطق المتصلة بها.

في هذا التحقيق تطوف «الأيام» في أغوار ماضي وحاضر سوق السبت لتضع بين يدي القارئ الكريم قطوفا دانية مما تيسر الوصول إليه من ملامح مشاهدة على مر تاريخه. ومعها لقطات من ملامح المكان الذي نشأ ومازال يقام فيه .

سوق السبت محطة ترانزيت للبضائع الإنجليزية
فيما لا يعرف بالتحديد تاريخ ظهور سوق السبت في الصبيحة وأسباب اختيار موقعه في منطقة تفصل بين شمال اليمن وجنوبه، هناك حقبة تاريخية غير محدد بدؤها شهدتها المنطقة وانتهت بإعلان استقلال الجنوب أسهمت في ازدهاره. لقد كانت طور الباحة منذ مطلع القرن الماضي وسوقها السبت بمثابة محطة ترانزيت للبضائع الإنجليزية الآتية من مستعمرة عدن بواسطة قوافل الجمال قبل أن تحل محلها المواتر (سيارات النقل) بأنواعها: ارسي، انترنش، بيد فورد، وكانت تنقل البضائع المختلفة: البز، التمباك، المواد الغذائية، الجاز، تحمل من عدن في أيام مجدها الذهبي لتعبر سوق السبت قبل أن تحط حمولتها في مناطق اليمن الشمالي، في موقعين للجمرك أنشئا على حدود لواء تعز لترسيم البضائع قبل إعادة نقلها إلى داخل مناطق تعز. كان هذان الموقعان على هيئة جناحي نسر قفصه الصدري سوق السبت، الجمرك الأول في ناحية حيفان ويسمى جمرك وادي المفاليس على بعد نحو 12 كم شمال شرق السبت، والثاني جمرك وادي معبق بناحية التربة ويبعد نحو 5 كيلومترات شمال غرب السبت. وبعد ترسيم البضائع في هذين الجمركين ولطبيعة التضاريس الوعرة للواء تعز وعدم وجود طرقات تسابق الجمالة وأصحاب الحمير لنقل الحمول (البضائع) نحو مناطق لواء تعز: الزعيمة، الاشبوط، المحرقة الموسن، الشويفة، الاحكوم، الزبيرة، أديم الزريقة، المصعد، القريشة، التربة، المصلة، الراهدة، وبالمقابل تتجه قوافل الجمال نحو عدن محملة بمنتجات محلية يمنية مثل القات، الجلود، البيض، أخشاب الفروش، الفحم، الحنا وغيرها. لقد صور الأدب الشعبي اليمني بعضا من مظاهر تلك الحقبة شعرا ونثرا كقول أحد الشعراء:

يا راهدة يا درب يا مدارة

يا قلعة الأموال والتجارة

راس النقل سارع لكل غارة

يتذكر الوالد عبده أحمد العراط، أحد الذين عملوا في جمرك معبق شيئا عن نشاط هذا الجمرك في تلك الحقبة: «أنشئ جمرك معبق في نحو ثلاثينات القرن الماضي لترسيم البضائع الواردة من عدن إلى اليمن ( المملكة المتوكلية). كانت البضائع تنقلها قوافل الجمال من مستعمرة عدن إلى الجمرك وبعد ترسيمها في الجمرك تتولى قوافل أخرى من الجمال والحمير نقلها داخل مناطق الحجرية كالزعيمة، الاشبوط، المحرقة الموسن، أديم الزريقة، المصعد، القريشة التربة. ثم جاءت السيارات بدل الجمال في نقل البضائع من عدن إلى الجمرك. بضائع كثيرة كانت تأتي من عدن كالبز والتمباك والمواد الغذائية والجاز والسكر وغيرها. وكان الجمرك أيضا يرسم ما تنقله الجمال من المناطق الشمالية نحو عدن مثل القات المقطري والبيض وخشب الفروش وغيرها».

ويروي سعيد فارع دومان أحد المداكنة القدماء في مدينة طور الباحة، وأحد ملاك الأرض التي نشأت فيها المدينة بعضا من المشاهد التي مرت بها المنطقة: «في مطلع الأربعينات قدمت إلى الصبيحة أول دورية بريطانية من جنود بريطانيين وهنود كان يطلق عليهم السيك والجبرت. كان يومها سوق السبت عششاً وعرائش يؤجرها أصحاب الأرض كل يوم سبت لاصحاب البضائع. في تلك الفترة كانت السيارات قديمة مثل التوني والجيمسي والارسي تنقل التجارة من عدن بعد دفع جمارك للسلطنة في دار سعد إلى السبت ثم نحو المفاليس ومعبق. كانت رحلة السيارات من عدن عبر الاصفا أو امرجاع تستغرق أربعة أيام لصعوبة الطريق، وعندما تصل إلى جمرك المفاليس يدفع التجار مصالحة لاصحاب جمرك المفاليس ثم تنقلها الجمال والحمير إلى المناطق الشمالية في ناحية حيفان كالمصلة والشويفة والاحكوم والزبيرة والراهدة وبقية مناطق لواء تعز».

قلب الشارع ميدان للخضار والتسوق
قلب الشارع ميدان للخضار والتسوق
للعيد سيعة وسمات في سوق السبت
لعيدي الفطر والأضحى طقوسهما في سوق السبت، لكن عيد الأضحى يحتل مرتبة متميزة اكثر من الفطر. مع إطلالة هلال ذي الحجة تنطلق رائحة العيد من أرجاء سوق المواشي. الأسواق الثابتة تزداد اتساعا، أسواق جديدة تستحدث تتصل به أو تنفصل، أسواق مخصصة وأخرى متداخلة، أسواق جديدة للبزازين (باعة الملابس) وأخرى للأواني المنزلية وأواني طبخ اللحم وحفظه وأكثر منها للمواشي والبهارات. يزدحم سوق (الجلب) بآلاف الماشية ما جاز للتضحية وما لا يجوز، يزداد اتساعا وتتفرع عنه أسواق جديدة. وفي يوم 8 ذي الحجة يعقد سوق واحد في السنة يطلق عليه يوم السيعة، وهو سوق شعبي لا يختلف كثيرا عن سوق السبت يعقد في موضعه وبحجم أصغر منه مرة واحدة في السنة بين آخر يوم سبت في عشر ذي الحجة ويوم الوقوف بالتحديد ولو كان هذا اليوم يوم سبت فإنه يسمى يوم السيعة. لا يعرف معنى أو مدلول التسمية لهذا السوق الإضافي غير أن أغراضه هي نفس أغراض سوق السبت إضافة إلى أنه يوفر فرصة أخيرة للباعة لتصريف ما تبقى من بضائعهم والتخلص منها ولو بأسعار زهيدة، وفرصة للمتسوقين الذين لم يتسنَّ لهم شراء متطلبات العيد أو ما نسوا منها. وهذا السوق كثيرا ما تحدث فيه مفارقات في البيع والشراء، لا سيما الأضاحي فقد ترتفع أسعارها ارتفاعا كبيرا كما حدث في سيعة العيد الفائت، أو تهبط هبوطا لا يتوقع لأنه آخر سوق يقام قبل العيد ومن لا يملك أضحية حتى يوم السيعة يجبر على الشراء بالسعر الباهظ. أما تجار الماشية إذا كسد السيعة فيجبرون على بيع ما بقي لديهم من ماشية ولو بالخسارة، لأن إبقاءها يكلفهم خسائر كبيرة، فالأيام التي تلي العيد غالبا ما يكسد فيها (الجلب).

على مدى تاريخه كان وما زال سوق السبت يتألف من عدد الأسواق المخصصة والمتداخلة أهمها: سوق الجلب، سوق الوزف والسمك المملح، سوق القات، سوق البز، سوق القصب، سوق الخضار والفواكه، سوق الطيور ومشغولا ت النساء، وكل سوق منها في موضع معين من المدينة، وإن تداخل في ثناياه مواضع لبيع بضائع لا صلة له بها.

سوق الجلب (المواشي)
استقر اليوم في المحيط الشرقي من المدينة.. ساحة مفتوحة في العراء حركة البيع والشراء فيها بشكل محدود لا تتوقف طيلة الأسبوع، لكن حلقته الكبرى تعقد يوم السبت لبيع وشراء المواشي، سواء التي يبيعها رعاتها
أو التي يجلبها تجار الماشية الذين يطلق عليهم (القماط أو الجلابة) من أسواق ريفية صغيرة تعقد في أيام مختلفة من الأسبوع في مناطق مختلفة بمديريات لحج وتعز، فتشكل روافد صغيرة لتغذية سوق السبت.. من هذه الأسواق الصغيرة يشتري الجلابة المواشي بالجملة من مختلف الأصناف والأعمار: نعاج، ماعز، كباش طلاية (جديان)، إبل، بقر لبيعها لجلابة آخرين يتسوقون السبت من عدن ولحج وحتى الضالع، وما زاد منها يسوقونه بأنفسهم في مدن هذه المحافظات. قبل العيدين ـ لاسيما عيد النحر ـ تشتد حركة البيع والشراء في سوق المواشي فيطلق عليه موسم المتجلبين، وكثيرا ما يجذب جلابة جدد أغلبهم من موظفي الدولة الذين يتركون مرافق عملهم ليتحولوا إلى جلابة، ومؤخرا دخل السوق جلابة جدد من اللاجئين واللاجئات الصومال. في هذا الموسم لا يقتصر جلب المواشي إلى سوق السبت من الأسواق الريفية وإنما يمتد النشاط عكسيا، إذ تجلب من عدن إلى سوق السبت كباش البرابر والتيوس المستوردة لبيعها في سوق السبت كأضاحٍ تسد حاجة الصبيحة ومناطق شاسعة في تعز. أما تسويق الكباش المحلية (البلدي) والإبل والأبقار ومختلف أنواع الماشية إلى عدن فلا يتوقف. سوق الملابس

قبل نحو 35 عاما كان للبزازين سوق خاص يسمى (سوق الكساء) في المحط الجنوبي الغربي من المدينة الصغيرة، كان باعة البز يومذاك، يستظلون بسقائف عشش ويفترشون الأرض لبيع بضائعهم. ولما تولى القطاع العام مهمة بيع مختلف البضائع في الجمعيات التعاونية تلاشى هذا السوق، ثم استحدث في مناطق الحدود الشمالية المجاورة للصبيحة ثلاثة أسواق لا تبعد عن سوق السبت سوى أقل من كيلومترين الأول في موضع يسمى (غريب) والثاني في موضع يسمى (الشرج). أما الثالث فسوق الجمعة الذي ازدهر على بعد نحو سبعة كيلومترات. أضرت هذه الأسواق بمكانة سوق السبت دون أن تسلبه مكانته، إذ ازدهرت حركة بيع الملابس ومختلف أصناف البضائع فيها ليس بتهريبها إلى مناطق الصبيحة فقط ولكن بتهريبها إلى محافظات لحج وعدن وأبين. منذ نحو ربع قرن عاد سوق البز إلى سوق السبت من جديد في الهواء، وبعد تحقيق الوحدة تلاشت أسواق الجمعة والشرج وغريب وهجرها أهلها وزبائنها إلى مدينة طور الباحة، وبعد أن توسع العمران غدت الملابس تباع في الدكاكين، ثم استحدثت خلال العامين الماضيين دكاكين خاصة ببيع الملابس ومتعلقاتها في المحيط الغربي من المدينة، في حين يخيم الباعة المتجولون بجانب باعة البهارات والأواني المنزلية على حافتي الشارع الرئيس في الجهة الجنوبية من المدينة، ولا يتورع بعضهم خاصة مع قرب الأعياد عن افتراش الشارع العام لفرش بضائعهم مقابل إتاوات لإسكات من يعترض.

سوق الوزف والسمك
يكاد يكون سوق السبت متفردا وبلا منافس في بيع الوزف والسمك المملح. في الماضي البعيد كانت قوافل الجمال تتدفق منذ عصر الخميس وطيلة يوم الجمعة، قادمة من الساحل الغربي للصبيحة: العارة، الخور، السقيا وغيرها، محملة بالسمك المملح بمختلف أحجامه وأنواعه وتسمياته المحلية في المنطقة: الحريجي، القد، العربي، البياض، السخلة، الديرك، الزينوب...إلخ. وشوالات الوزف بمختلف أسمائه. وعندما حلت السيارة محل وسيلة النقل البدائية (الجمل) وتفوق مزايا السيارة كالسرعة وكميات الحمولة وامتلاك حافظات التبريد بدأ سوق السبت يعرف السمك الطري (الطازج)، ولعدم تعود أهل المنطقة عليه تعرض في البداية للكساد وظل فترة طويلة عاجزا عن منافسة المملح.

أفرز سوق السبت سوقا خاصا للوزف والسمك المملح تنقّل من موضع إلى آخر، ومع توسع المدينة وتكاثر الأسواق وتيسر المواصلات تضاءل حجم سوق الوزف والسمك، فصار يباع داخل جواري (عربات) في قلب الشارع العام أو تحت خيام وعشش نصبت في ثنايا الأسواق الأخرى، في مشهد عشوائي يفتقر إلى أبسط مواصفات التنظيم أو النظافة والاهتمام بالأخطار التي يسببها تلف هذه السلعة الغذائية.

السبت سوق لتصريف كباش الصومال
السبت سوق لتصريف كباش الصومال
سوق القصب
السباق الجنوني على كل شبر أرض في المدينة رحّل سوق القصب من موقع إلى آخر ليستقر منذ نحو 20 عاما في المحيط الشرقي من المدينة. سوق القصب خاص ببيع الأعلاف الخضراء واليابسة التي تجلب من شتى مناطق طور الباحة ومحافظتي لحج والحديدة وأبين لتغطية حاجات مناطق طورالباحة والمديريات المجاورة لها، ولا تتوقف حركة بيعه طيلة أيام الأسبوع، وإن كانت حصيلة البيع والشراء في يوم السبت تفوق حصيلة بيعه طيلة أيام أسبوع.

سوق القات
سوق القات هو الآخر لم يعرف مستقرا، فقد تموضع مذ ما قبل الاستقلال في الجهة الشمالية من المدينة في سوق عرف بسوق البلدية. ثم حظر بيعه مطلع السبعينات فكان ذلك الحظر سببا في إقامة وازدهار سوق جديد للقات في موضع مجاور يسمى (غريب) على الحدود المجاورة من الشطر الشمالي.

بعد إلغاء الحظر مطلع الثمانينات اتخذ باعته مواضع بجوار المحلات التجارية حتى أنشأت البلدية سوقا له وسط موضع اشتهر بسوق الاعمور خلف الشارع الرئيسي، ومنذ نحو عامين نقل إلى سوق جديد أنشئ للخضار والفواكه لكنه وزع لباعة الـقات فـي حين يتخذ بعض الباعة من العراء سوقا لهم.

سوق الطيور والمشغولات المحلية
يكاد يكون هذا السوق خاصا بالنساء اللاتي يتخذن من الطرف الشرقي للمدينة موقعا لعرض تجارتهن المتنوعة كالدجاج، البيض، الحمام، المر، البخور، الوشنة، المكابي، القطران، حصير النخيل وما يشتغل منه تحت المسميات المختلفة في المنطقة كالفرش، الاجاب، المهاجن، الجعاب، المسارف، سلال الدجاج وغيرها.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى