ما تبقى من الزمن

> فضل النقيب:

>
فضل النقيب
فضل النقيب
كانت مناسبة سعيدة، وقد جاء لحضورها من مدينة بعيدة في بلد آخر. لمحته من بعيد؛ كأنني أعرف هذا الوجه، أحاول التشبيه فأعجز، تبدأ الذاكرة عملها السري في التصوير والتحميض والإظهار والطبع، لم تستأذني، ولم أحاول منعها، وهل كنت أستطيع؟ فجأة تضيء الذاكرة ملمحاً هنا وآخر هناك مما تبقى من ذلك الزمن الذي أصبح في ذمة التاريخ يسبح على أمواجه. ابتسم ابتسامة الرضاء الشجية. كان لغزاً مبهماً وأصبح محلولا تقريبا. الذاكرة نفسها استراحت من ضجيج ورشة العمل التي نصبتها داخل المخ، ولكنها استمرت في عمل جديد أقل عناء، وذلك بعرض سينمائي بالتصوير البطيء لوقائع ماضي المعرفة الذي كان. لم يبق الكثير، حتى أنني عجزت عن تصنيف مستوى أو نوعية معرفتنا لبعضنا وهل كنا أصدقاء حقا، علما أننا قد نشعر بروح الصداقة مع البعض من مجرد النظر، أو اللقاء العابر، ونفتقدها مع آخرين بعد أن نكون قد توهمنا أننا وصلنا إلى الطابق السبعين. وهذا ما كان فقد توهجت نفسي بدفء ذكرى لصديق من دون وقائع ملموسة تؤكد ذلك. لا يهم فمنطق العواطف المشبوبة غير منطق العقل البارد. ويبدو أنه على الطرف الآخر كانت ورشة العمل شغالة وهذا ما تأكد لي عندما اقتربنا من بعضنا بالأحضان. الأمور التي كدرتنا ذات يوم أصبحت تضحكنا الآن، ياللزمن الماكر، يضع الشجرة بين أعيننا فلا نرى الغابة، فنشعر أن كل الطرق مسدودة وغير سالكة، وحين نستسلم وننام مقهورين يفتح الطرق في الأحلام ويضيؤها في عز الظلم فنستيقظ على صبح جديد فإذا طرق الغابة سالكة: المياه تتدفق والعصافير تترنح من سكر الغناء ،والحياة تضج لكي يتعلم الإنسان أن ما من مكروه يمكن أن يكون نهاية الدنيا. ارم أثقالك وراءك وامض خفيفا لا تحمل معك سوى المعرفة وبستاناً من المحبة.

زمن طويل يا محمد وها أنت ذا أمامي من دون موعد، معقول أيها الفتى، أما زلت تطير على أجنحة الأحلام الوردية وتحتفظ بشاعريتك البهية؟ شيء ما في عينيك يقول إنك قد تعبت قليلا، ولكنه التعب المطلوب لكي يكون للحياة معنى ولثمارها مذاق، فالفلاح الذي لا يحرث حقله ولا يرعى أشجاره يغترب حتى وهو يقتعد الفيء تحت ظلال الزيزفون. ترنّ ضحكته البريئة الصادقة. أطمئن إلى أن الزمن لم يخنق الطفل داخل الرجل. ثمة وقت لكي نشرب فنجانين من الشاي ونصغي إلى هدير الشلال المتدفق منذ ربع قرن.

قلت له أنا لم أحسدك حقيقة إلا مرة واحدة مازالت توجعني حتى اللحظة، لم يستطع التنبؤ! قلت له كنا نسير في شارع الملك عبدالعزيز في جدة وفجأة عبر كلب الشارع دون انتباه فصدمته سيارة مسرعة ففقد الوعي ولم يعد يعرف أين يتجه وقد فوجئت بك تخاطر بين السيارات وتمد إليه يدك فيتعلق بها كطفل ممتن قبل أن تقتاده إلى الرصيف. كان موقفاً إنسانياً أدهشني. ندمت أنني لم أبادر، ومنذ ذلك اليوم وأنا أبحث عن كلبي ولم أجده حتى أنقده.. ضحكنا أنا وصديقي محمد محسن الحريبي.. و..قل للزمان ارجع يا زمان.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى