عبداللاه الضباعي..شاعر الشعب.. لا الشاعر الشعبي

> «الأيام» علي محمد يحيى:

> ماذا يمكن لي القول عن هذا الشاعر الإنسان، بعد أن قرأت مجموعات ثلاثاً من شعره: «يا خير أمة»، «كلم جدار» وأخيراً «حالات» أهدانيها مكتوباً عليها كلمات منتقاة خطها بيده فكانت مختصرة كثيرة الدلالات.

قرأتها جميعها فإذا بي استمع إلى صوت مدوّ من أجل قضية واحدة اسمها «الوطن»، صوت شاعر وعى الكلمات بغير دراسة أكاديمية للغويات وأدرك بتربيته المحافظة وبطبعه وفطريته بأن الشاعرية ليست سوى رموز يستطيع بها استجلاء صور المعاني خلفها.

هو الشاعر عبداللاه الضباعي، شاعر الشعب لا الشاعر الشعبي كما أطلق عليه من قبل بعض الأساتذة النقاد، أقول شاعر الشعب حتى لا يلتبس مفهوم القصد كما أود أن يصل للقارئ الكريم، لأنه إنما يستوحي نماذجه الفنية من ذاته المرتبطة بالمجتمع والإنسان، والمتفاعلة مع الأحداث الجارية في حياته وحياة مجتمعه اليومية، فتأتي طبيعته مقترنة بقريحة صافية شدت الوجدان إلى ما يحتويها ويعتمل فيها من صدق وخير، وآتته بها طبيعته بعد أن خلع عليها من أردية بيئته بالمفهوم الشامل الذي نعرفه لها.. فلا ريب إذن في أن نتاجاً لمبدع كهذا المبدع الأستاذ الضباعي قد طبع بطابع الصدق في الترجمة عما يعتلج به وجدانه الذي يبدو واضحاً جلياً فيما اتسم به شعره.

في رحلة الأستاذ الضباعي مع الشعر، وهو شاعر الشعب، نجد أن الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي كان له أكبر الأثر في شاعريته وأفكاره التي طرحها في قصائده، فقد عبر عنها بصدق حتى أضحت ظواهر فنية في جل ما كتب من الشعر، فأصبح لشعره أثر قوي في النفس، وتأثير ممتد في أفئدة الناس فيه إمتاع وإقناع. ومن هذا المنطلق استطاع أن يؤكد للقارئ لشعره أن له منطقاً قوياً يصطبغ بلون شعري قريب من هموم المجتمع، وأن خياله فيه إنما هو غلالة شفافة تكتسي بها الفكرة، فيتحول التلميح إلى تصريح، وتتحول الفكرة إلى تدفق عاطفي يومض بالإيحاء والتأثير.. نأخذ مثالاً قصيدته (الطمع مهلكة) من ديوانه الثاني(كم جدار) التي نستشهد ببعض من أبياتها:

يبدو الشرف والكرامة والقيم هبّه

فقد التوازن وفقد العدل هيْ الاسباب وكلمة الصدق درّة حالية عذبة

من كلمته صادقة نال الثقة واعجاب

ومن تغذّى بكذبه ما تعشى به

والناس بتميّز الصادق من الكذاب

ثم يقول:

شوف الطمع مهلكة يا غافل اتنبه

لا مال أو جاه يشفع من حساب وعقاب

إقلع عن النهب والرشوات والطلبة

إقلع عن الطبع هذا عيب يا طلاّب

ويختتم قصيدته بالقول:

حسب المثل قال بعض الناس له وثبة

بالعافية له مخالب حادة وأنياب

وساعة الصفر في رجليك تعثر به

أو بايقفى بظهره راكز الأذناب

الأستاذ عبدالرحمن إبراهيم الاديب الشاعر والناقد في مقدمته التي تصدرت المجموعة الثالثة لشاعرنا الضباعي يقول: «إنه شاعر يترجم مناخ الواقع بغيوماته وشموساته، شاعر لا يحلق في فضاءات التخييل الجاف، والنرجسية البلهاء.. وما أجمل الشعر حينما يكون صادراً من القلب». صدق الأستاذ عبدالرحمن ابراهيم في تقييمه لمصداقية هذا الشاعر الذي نجد في شعره رغم بساطته طبيعته الانسانية الصادقة، وقد انصرف عن استعارة الصور واقتراض المشاعر التي نجدها في شعر البعض.. وتناءى عن البهجة والتهريج في أفكاره وأساليبه التي ابتدعها في أبياته ففاح منها الصدق.. ولم يتناس في كل ما كتب أنه يحدثنا عن الوطن وعن الإنسان وأن أهم دوافعه ومقومات محاولاته هذه إنما هي القلق النفسي الذي لا ننفك نتلمسه ونحس به في كل ما كتب بجماليات وشاعرية فطرية.

في اللقاء الوحيد الذي قابلته فيه حين استضفته في داري في جمع جميل من الأصدقاء الأعزاء .. سألته: كيف تحضرك التجربة - تجربة كتابة القصيدة؟ رد على مسامعنا أنا شاعر والشاعر يحس دائماً بتغيرات نفسية وهو في حالات إشراقاته.. أبدؤها بالقلق ثم كرب وضيق بعدها أشعر داخلي بحدوث تفريغات كأنها الكهرباء تنشأ عن احتكاكات غيوم متلبدة، فكأنها مناخ غريب عطاؤه من البروق والرعود يؤثر في النبض واختلاجات الشعور وفي توقف الدم في الشرايين، فأتمزق في تأملاتي بعنف ويعتريني شيء من التلاشي بخدر لذيذ فأدرك بعدها أن القصيدة تنساب من داخلي.. وأنا لا أفتأ أضع آفاق إنسانيتي ووطني وأمتي نصب عيني. في قصيدته (مقياس) من مجموعته الثالثة (حالات) يقول:

لكل شيء في حياة المجتمع مقياس

وقاعدة ثابتة تحكم مقاييسه

القاعدة في المباني تعتمد ع الساس

الدار ينهار لو ما أحكمت ساسه

وعكسها الجسم تبدأ علته بالراس

ما يشفى الجسم لو ما عالجوا راسه

وفي موضع آخر من القصيدة يقول:

ولا تسود العدالة بين كل الناس

لو ذا يجامل مع اصحابه وذا ناسه

وفاقد الشيء لا يعطيه يا عباس

ولا قضى دين من شخص أعلن افلاسه

ويقول في خاتمة القصيدة:

ما تحصد أثمار يا زارع في المنياس

من سابع المستحيل أن تزرع النيسه

وحكمة الرأي تأتي من حكيم الناس

وبعضهم خبت صحراء جمجمة رأسه

وفي خاتمة هذه العجالة رغم ازدحام الانطباعات، أميل إلى القول إنه من خلال الكثير من القضايا التي يثيرها شاعر الشعب الضباعي نستطيع معرفة مكانة الوطن عنده وهو الذي طرق أبواباً عديدة في مجموعاته الشعرية الثلاث لامست مشاعر ووجدان الناس بمختلف شرائحهم.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى