في حبّ تريم

> ريم عبدالغني:

>
ريم عبدالغني
ريم عبدالغني
نتابع اليوم رحلاتنا في ربوع اليمن ... ما زلنا في حضرموت، وسنزور اليوم مدينة تريم ..وهل أستطيع أن أدخل بكم تريم ، دون أن أتوقف قليلاً عند أطلال بوابتها الجميلة لأقرأ الفاتحة عن أرواح كل الصالحين الذين مروا يوماً فوق هذه الأرض الطاهرة..«مدينة الصديق» التي دعا لأهلها الذين لم يرتدوا ثلاث دعوات : أن «يكثر فيها الصالحون، ويبارك في مائها، ولا يطفئ لها ناراً» (أي أن تبقى مدينة عامرة حية)، وربما لذلك قيل أن فيها ثلاث بركات ظاهرة: بركة في مساجدها، وبركة في تربها، وبركة في جبالها، بل قيل : إنً سيدنا أبا بكر الصديق رضي الله عنه يشفع لأهل تريم خاصة يوم القيامة.

هي من أقدم مدن جنوب شبه الجزيرة العربية، إذ يعود تأسيسها للقرن الرابع قبل الميلاد، وأحد أهم ثلاث مدن رئيسية في وادي حضرموت (إضافة إلى سيئون و شبام)، كانت عاصمة الدولة الكثيرية في القرن السادس عشر الميلادي، كما كانت عاصمة ومقراً لملوك كندة في مرحلة من الزمن.

سميت باسم تريم بن السكون بن الأشرس بن كنده ( أحد ملوك حضرموت) ، ويقال أيضا إنَّ أول من عمرها تريم بن حضرموت بن سبأ الأصغر، عُرفت بـ«الغنًّّاء» (الواحة الغنية بأشجارها)، ووصفها الهمداني بأنها «مدينة عظيمة»، بينما أسماها الشيخ عمر المحضار «بلاد الطب»(وقالوا الطّبين جميعاً: طب القلوب وطب الأبدان ).

أصبحت بعد ظهور الإسلام مفصلاً في الحياة الدينية اليمنية ومركزاً كبيراً للعلوم، حج إليه طلاب العلم وأساتذته من مختلف أنحاء العالم للتزوَّد بالعلوم والمعرفة، تتالت عليها مدارس ومذاهب دينية متعددة، ولكنها بقيت دوماً مركز دعوة لتعاليم الدين السمح الداعي للسلام، وقد أوقف المحسنون من أبنائها لذلك مئات من المدارس والجوامع والأربطة والزوايا.

هي مدينة العلم والعلماء، اشتهرت موئلاً للعلوم الدينية والفقه عبر العصور حتى سميت إحدى مدارسها بالأزهر الثاني، أما أهم أربطتها وأقدمها فهو رباط تريم الذي تخرج منه أعيان العلماء المشهورين الذين نشروا العلم في الكثير من بقاع العالم. ويُروى أنه عاش في هذه المدينة مائتا مُفتٍٍ في وقت واحد، وفيها عشرات المعالم التاريخية للأولياء الصالحين مثل مسجد الولي الصالح سركيس، وعلى بعد 80 كم منها قبر النبي هود عليه السلام ويقام في تريم يوم 13 شعبان من كل عام سوق للإبل بعد عودة الزائرين منه.

ولأنها محط رحال طالبي العلم، فقد أصبحت تريم غنية بالمخطوطات والمطبوعات العربية التي تملكها العائلات المميزة في المدينة، جُمع بعضها في مكتبة الأحقاف المشهورة التي تضم آلاف المخطوطات في شتى العلوم والمعارف، وساهم في تعزيز دور تريم التعليمي والديني عائلات «السـادة» الأكثر شهرة التي أقامت فيها مثل المحضار والسقاف وآل الكاف، و التي كان لها أيضاً دورها السياسي والاقتصادي والعمراني في حضرموت وخاصة في بداية القرن الماضي.

وتراث تريم العمراني والثقافي بالغ الأهمية، كأنها انسلّت من إحدى الأساطير بما تحتويه من قصور طينية مهيبة وطرز معمارية رفيعة، وقد اشتهرت بإنتاجها أفضل أنواع الطلاء الكلسي الأبيض(النورة)، وبأسر البنائين العريقة الذين توارثوا الخبرات، مستفيدين من عبقرية الطين لإبداع عمارة حديثة مدهشة تمزج بين الطرز المستوردة والتقنيات التقليدية، عمارةٌ صمدت حتى اليوم في مواجهة الزحف الإسمنتي المرعب.

ولا تلفت يُمنة أو يُسرة إلاّ وترى مسجداً أو تلمح مئذنة، مساجد قد تصغر إلى غرفة متواضعة أو تكبر حتى تتسع لمئات المصلين، وقد تتلاصق عدة مساجد لتشكل مسجداً واحداً، وًيقال إن عدد مساجد تريم بلغ 365 مسجداً بحيث يمكن الصلاة كل يوم في مسجد على مدار العام،إضافة إلى مصليات النساء وكثير من الزوايا والخلوات التي يعتكف فيها المتصوفة من أهل العلم والزهاد مقتاتين على يسير من التمر واللبن والماء، وقد ورد في الشعر الحضرمي الشعبي المتوارث:

جملة مساجد تريم أربعمائة يا فهيم أحصيتها بالعدود

يعود أقدم مساجدها إلى القرن الأول الهجري (كمسجد الوعل الذي بناه أحمد حفيد الصحابي عباد بن بشر ومسجد نفيع الذي بناه أحمد نفيع الذي وصل مع جيش الصديق لمحاربة المرتدين من كندة )، ومن أهمها مسجد باعلوي (القرن السادس الهجري )، أما درة مساجد تريم - وحضرموت كلها - فهو مسجد المحضار (القرن التاسع الهجري) الذي يقف شامخا ببياضه الناصع شاهداً على عظمة المعمار اليمني.

لمساجد تريم قصص قديمة متواترة تسمعها من الأهالي، الذين يحرصون على بناء المساجد من طين طاهر لأرض لا غبار عليها وسمعة مالكها حسنة، ولهم تقاليدهم التي درجوا على اتباعها في مراحل البناء المختلفة للمسجد.

ما أن أدخل أحد هذه المساجد حتى أملأ صدري بنفسٍ عميق، إذ تأخذني الخطوط البسيطة إلى عالم روحاني مريح.. فأرمي همومي وعالمي الدنيوي وراء الباب الخشبي الكبير.. وأدع جدرانها البيضاء تحتلني..تُُدخل إلى قلبي الطمأنينة .. أستعيد أجنحتي.. و تطأ قدماي الحافيتان سندساً اخضر.. تغسلني ظلالها بالمحبة والرحمة.. تمتلكني .. فأغيب في صفائها.. وتغمرني السكينة.

قبل أن نغادر، ألبي دعوة لا تُرفض لارتشاف كوب من الشاي الحضرمي المختمر، ما أحلى طقوس الشاي هنا ! أمام البساط الذي فرشت فوقه -إلى جانب «السـماور» الكبير- الأكواب الزجاجية المتعددة الأشكال والألوان، والملاعق الصغيرة الذهبية والفضية، ولا فائدة من اقتناء الأدوات أو تعلم طريقة التحضير، فهي نكهة لا يتذوقها المرء إلا هنا ..بينهم.

الآن ..و بعد كل ما أخبرتكم عن تريم وأهلها.. هل تلومونني أن وقعت في غرامها؟

[email protected]

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى