الشيعة.. القديم المتجدد في الدين والسياسة

> د. هشام محسن السقاف:

>
د. هشام محسن السقاف
د. هشام محسن السقاف
التعاطف الفارسي مع الحركات المناهضة للدولة العربية الإسلامية (الأموية) 40-132هـ لم يكن نتاج العاطفة فحسب، بالزواج التاريخي وسريان دماء المجد الفارسي في عروق آل البيت، وكما ذكر الزفخشري في كتاب «ربيع الأبرار»: أن يزدجرد كان له ثلاث بنات سبين في زمن عمر بن الخطاب، فكانت احداهن لعبدالله بن عمر فأولدها سالما، والأخرى لمحمد بن أبي بكر الصديق فأولدها القاسم، والثالثة للحسين بن علي فأولدها عليا زين العابدين (محمد أبوزهرة، الإمام زيد ص 23) وإنما في الأساس ايضاً، إلى جانب ذلك، سياسة الإقصاء الأموية التي مورست على الموالي سياسيا وإداريا، ناهيك عن السياسات المالية الجائرة من ضرائب وسواها بعيدا عن وجه الحق والشرع رغم اعتناق هؤلاء الإسلام. لكن الزواج كان قد جمع درة البيت العلوي ممثلا بالحسين بصفوة النسب الفارسي فرسخ وشائج المحبة بين الجانبين. فالمعتقدات الفارسية تبجل الروح الفارسية الآرية ، وينطبق القول على أن ملوكهم ينحدرون من الآلهة كما يعتقدون وأن النور الإلهي ينتقل في أصلاب العائلات المصطفاة (د. عبدالمنعم الحفني، موسوعة الفرق والجماعات والمذاهب والأحزاب والحركات الإسلامية)، ومع أن المصائب تجمع المصابين كما يقولون فإن القاسم المشترك بين آل البيت والموالي هو الظلم الواقع على الطرفين والظالم فاعل واحد هو الأمويون. وقد مر التشييع الذي هو مشايعة علي (رضي الله عنه) والقول بإمامته وخلافته نصا ووصية، والاعتقاد بأن الإمامة لا تخرج من أولاده، وإن خرجت فبظلم يكون من غيره، و بتقية من عنده (الموسوعة) بمراحل عديدة قبل أن يكتمل عقده، وزاد ما لحق بآل البيت لاسيما استشهاد الإمام الحسين في كربلاء سنة 61هـ والأئمة من بعده بعداً تراجيديا يضاف إلى البعد العقائدي للتشيع.

لقد شاءت إرادة الله سبحانه أن يخرج من صلب الناجي الوحيد من مجزرة كربلاء الإمام علي زين العابدين بقية الأئمة الذين بحسب الاعتقاد الشيعي يكتملون اثني عشر إماما هم حسب الترتيب: علي، الحسن، الحسين، علي زين العابدين، محمد الباقر، جعفر الصادق، موسى الكاظم، علي الرضا، محمد الجواد، علي الهادي، الحسن العسكري، ومحمد المهدي. والاثنا عشرية يعتقدون بكمال النسخة الحالية من القرآن، وينطقون الشهادتين، ويقومون بكل تكاليف الإسلام، ولكنهم لا يتبعون السنة، ويشترطون للأحاديث أن يكون مصدرها آل البيت. وهم يعتقدون في الإمام المعصوم( د. الحفني، الموسوعة) وأمر التشييع برمته لا يخلو من تماهٍ وتأثيرات في الموروثات والتصورات السابقة سواء أكانت فارسية أم إسرائيلية أم مسيحية . فغير بعيدة عن الأذهان في التشيع المبكر مزاعم عبدالله بن سبأ، اليهودي اليمني الذي أسلم حديثا، في العصمة والرجعة وتأليه علي، وكان أن نفاه الإمام علي لمزاعمه إلى ساباط ببلاد فارس، فلما قتل علي قال: إن عليا حي لم يقتل وإنما الشيطان تصور بصورته كما توهم اليهود والنصارى من قبل أن المسيح قتل، فعلي - حسب ابن سبأ - في السماء وعن قريب ينزل وينتقم من أعدائه، فهو إذاً أول من أدخل الرجعة في الإسلام كما في اليهودية والنصراني، وقال: إن عليا في الغيم، والرعد صوته، والبرق سوطه. وتعجب ممن يزعم أن عيسى "يرجع" ويكذب بأن محمدا يرجع وقد قال الله: {إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد} القصص 85 (الموسوعة). والثابت أن اتساع رقعة الفتح الإسلامي والاختلاط الناشئ بين عرب الجزيرة والأقوام والشعوب الأخرى التي انضوت في الإسلام وما أورثته الفتنة الكبرى من ظهور الفرق الإسلامية وسعيها لغطاء فكري وايديولوجي يجيب عن أسئلتها ويميزها عن الآخرين، كل ذلك أكسب التشيع كما باقي الفرق الرؤية التنظيرية لتصوراته العقدية والجدلية وتغليف ماهو سياسي بالديني لاكتساب شرعية الوصول أو الوثوب إلى سدة الخلافة. وكل أن اضطلع بالدعوة التشعية لآل البيت دعاة مقتدرون من الشيعة أصبحوا بمثابة الزعامة الحقيقية التي تناضل لمكاسب سياسية (الإمامة أو الحكم) في غطاء من التصورات الدينية، بينما ظل الأئمة محصورين في الحجاز أو محاصرين في العراق يلقون المصير المحتوم على أيدي الخلفاء العباسيين، وكذلك الأمر بالنسبة للدعوة الإسماعيلية (الفاطمية) التي انشقت عن الجعفرية أو الاثني عشرية على عهد جعفر الصادق بسبب نقله الإمامة من إسماعيل (ابنه الأكبر) الذي مات أو هكذا قال الصادق، إلى ابنه موسى الكاظم، فرفضت قطاعات شيعية ذلك الأمر، وادعت أن إسماعيل لم يمت وأنه اختفى ليظهر بعد ذلك، ونقل هؤلاء (الإسماعيليون) الإمامة إلى ابن إسماعيل (محمد المكتوم) الذي نأى بنفسه للعيش في الهند، ومع الترجيح بانقطاع أخباره هناك، إلا أن شيعته تدعي غير ذلك، حيث يظهر طفل صغير في جبال السلمية بالشام، قبل إنه حفيد إسماعيل، وكان له شأن آخر عندما مهد الأتباع له الحكم في المغرب وأعلنوا قيام الخلافة الفاطمية لأول مرة في سنة 297هـ باسم المهدي. أما الأئمة الاثنا عشرية فقد تخفوا في (التقية) مبدئهم الأثير صونا لدمائهم بعد كل الذي عاناه أجدادهم السابقون، وانبرى أبناء زيد بن علي بن الحسين بن علي وأحفاد الحسن بن علي بالدور المقاوم والمكافح، بينما تعرض أبناء الحسين وأحفاده الاثنا عشر رغم تقيتهم للموت على أيدي الخلفاء العباسيين، جريا هذه المرة على طريقة معاوية ابن أبي سفيان: (إن لله جنودا من عسل) ولكن هذا الموت المتلاحق لم يثن شيعتهم عن ترسيخ مفاهيم العودة والرجعة لهم، فقد غلف غياب ورجعة الإمام الثاني عشر (محمد المهدي) بكثير من التصورات والطقوس المؤثرة الموصولة بحديث للنبي صلى الله عليه وسلم كما يدعون، ليعود من السماء مالئا الأرض عدلا كما ملئت جورا. ومما تروج له معتقداتهم زواج الإمام الحادي عشر (الحسن العسكري) من أميرة بيزنطية مسيحية هي حفيدة أحد حواريي عيسى عليه السلام، فبعد سلسلة من الحوادث الأسطورية الغريبة، ومنها رؤية الفتاة في المنام للنبي صلى الله عليه وسلم والمسيح عليه السلام، وفي موقف آخر السيدة مريم العذراء وفاطمة الزهراء عليهما السلام، يحثونها جميعا على الزواج من حفيد النبي صلى الله عليه وسلم الإمام الحسن العسكري ليخرج من رحمها آخر الأئمة محمد المهدي، تتقحم هذه الفتاة المخاطر للوصول إلى بغداد فسامراء ليتم زواجها من الإمام الحادي عشر وتنجب منه آخر الأئمة الاثنا عشريين (محمد المهدي) .

وكأن الإخراج الشيعي أراد تحميل الإمامة الاثنا عشرية فكرة توحيد الإسلام والمسيحية في آخر مطافات الحياة أو الدنيا عندما يرجع الإمام محمد المهدي من السماء أو من مرقده ليملأ أرضنا عدلا بعدما ملئت جورا. ويحدث ان يختفي الإمام محمد المهدي وهو لم يبلغ بعد ميعة الصبا بعد سلسلة من الأحداث الدرامية طرفاها عمه جعفر، الذي أراد الاستئثار بالإمامة، والسلطة العباسية على عهد المعتمد بالله (256-279هـ)، ويستقيم الفكر الشيعي الاثنا عشري على فرضية اختفاء الإمام عن أعين العامة فلا يرى، إلا أن تراه أعين الخاصة (الإمام المستقر) فالغيبة إذاً لا تعني الموت بقدر ما تعني عيش الإمام (المستودع) في الخفاء حتى يحين أمر العودة في نهاية الزمان.

وبحسب جرهارد كونسلمان فإن الشيعة قسمت الزمن إلى زمنين هما:

1- الغيبة الصغرى وتبدأ بغيبة الإمام المهدي وتعيينه ممثلين عنه يستطيع الاتصال بهم ومخاطبتهم (وهذا أمر معروف في التراث الديني الفارسي وقد انتقل للتعبير عن بعض المظاهر السياسية المناوئة للعباسيين مثل الحركة المسلمية التي جاءت كرد فعل على قتل أبيي مسلم الخراساني سنة 139هـ على يد الخليفة أبي جعفر المنصور 136-158هـ وادعاء أربابها أن أبا مسلم لم يمت وأنه يظهر في الأسواق وسوف يعود ليملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا). وقد عين الإمام المختفي عثمان بن سعيد العمري وابنه محمد ليكونا همزة الوصل معه وظل الاثنان ومن تلاهما يتحدثان إلى الناس بلسان الإمام محمد المهدي مدة سبعين عاما من الغيبة سنة 260 وحتى سنة 329هـ (كونسلمان، سطوع نجم الشيعة).

2- الغيبة الكبرى: وتبدأ من سنة 329هـ وتستمر حتى يومنا، ولا يسمح الله للغائب أن يظهر للناس حتى عودته المرتقبة قبل القيامة.

الصفوية الفارسية والتشيع: بعد سلسلة من الحركات السياسية الانفصالية التي شهدتها فارس منذ نشوء الدولة المشرقية الأولى المنفصلة عن الخلافة العباسية (الدولة الطاهرية) عام 207هـ على عهد الخليفة العباسي عبدالله المأمون (198-217هـ) تتوالى الدول المستقلة التي باستطاعتها إبقاء الروابط الشكلية مع المركز (بغداد) كالدعاء للخليفة في صلاة الجمعة مع بعض الهبات والهدايا، أو مناوءته والتربص له. واستقر الحال بعد انهيار الخلافة العباسية سنة 565هـ وفي مقاطعة صغيرة من بلاد فارس لإسماعيل الصفوي في مطلع القرن السادس عشر الميلادي، بينما كان سلاطين آل عثمان يسيطرون على الأناضول ويقيمون عماد دولتهم العثمانية السنية حيث لا يكثرت أتباعها للإمام الثاني عشر الغائب وأنه هو صاحب السلطان الحقيقي على المؤمنين. وعندما قام السلطان سليمان بفتح بغداد عام 1535م صار بذلك حاكما على أهم مقدسات الشيعة في كربلاء والنجف والكوفة، وأصبح الشيعة هناك ليس أكثر من رعايا في دولته ولا يمثلون شيئا طبقا لمذهبه السني، وأما بالنسبة لهم فإن العثمانيين حكام غير شرعيين.

أما إسماعيل الصفوي الحاكم الطامح في تلك الفترة فقد بدأ يمد نظره إلى كل فارس انطلاقا من دولته الصفوية الصغيرة الواقعة بالقرب من بحر قزوين. واستطاع الصفويون أن يؤكدوا أصالتهم الفارسية ويشحذوا المشاعر القومية في نفوس أبناء أمتهم للوقوف في وجه المغول والقبائل المسيحية في جورجيا. وهكذا تتمكن العشيرة الصفوية الصغيرة التي كانت تعتنق التشيع الاثنا عشري من فتح المناطق الفارسية المهمة الواحدة تلو الأخرى بقيادة إسماعيل الصفوي الذي توج أخيرا شاها على فارس وعظمت مكانته ومكانة عشيرته بسبب الدور الوطني والقومي الذي لعبه وعشيرته في وجه الأعداء من خارج فارس. وعندما أراد الشاه الجديد أن يدعم مكانته السياسية في وجوه منافسيه العثمانيين لجأ إلى العقيدة والمذهب ليكون مغايرا لعقيدة أعدائه، ففرض على فارس كلها -التي كانت سنية آنذاك- مذهبه الشيعي الاثنا عشري ابتداء من سنة 907هـ وأمر الشاه الصفوي أن تضاف لصيغة الأذان: (أشهد أن عليا ولي الله) وقد صار بموجب تشيعهم إيمانهم بعقيدة رجعة الغائب الإمام محمد المهدي. ومن أجل ألا ينافسه أحد في سلطانه وحكمه وحتى مذهبه الاثنا عشري، أي السلطة الدنيوية والدينية أعلن إسماعيل الصفوي أنه يمت بصلة رحم ونسب للإمام الغائب محمد المهدي ولكل الأئمة من قبله فهو أحد أحفاد الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا ادعاء قديم يتجدد دائما في كل طامع للحكم بعد أن أغلقت الخلافة على قريش (الائمة في قريش).

وبعد مائتي سنة من الحكم الصفوي الذي أدخل ايران مجال الاعتقاد الشيعي الاثنا عشري تتمزق أوصال فارس بأنياب امبراطوريتي روسيا والدولة العثمانية سنة 1723م ويكون على منقذ الدولة الفارسية الشيعية القائد (نادر) أن يعلن نفسه شاها على البلاد بعد أن نجح في صد هجمات الاأداء ودافع عن بلاده ببسالة. ويؤرخ للشاه نادر أنه أول الحكام المحدثين في تاريخ إيران الحديث، ومع احتفاظه بالمذهب الشيعي الاثنا عشري مذهبا رسميا لدولته إلا أنه لم يجبر رعاياه على اعتناقه بالقوة وذلك لأنه لا يستطيع هو الآخر ادعاء النسب النبوي الشريف وإجبار رعيته على طاعته من خلاله، ولأنه أراد تخفيف حدة التوتر مع السنة والإمبراطورية العثمانية تحديدا.

وأبرز ما يمكن رصده لدور علماء المذهب الشيعي الاثنا عشري في إيران في الشأن السياسي وقوف هؤلاء -أو معظمهم- متضامنين مع التجار في مواجهة الشاه مظفر الدين في أواخر القرن التاسع عشر على خلفية منح الشاه لشركة امبريال تباكو كومبني الإنجليزية حقوق استغلال محصول التبغ في إيران بحيث احتكرت الشركة التبغ الإيراني عالميا، ولم يعد باستطاعة الإيرانيين شراءه إلا عن طريق الشركة الإنجليزية أيضا. ومرد هذا التحالف بين العلماء والتجار يعود إلى المصالح المشتركة بين الطرفين لتمويل التجار للحوزات العلمية بالمال. ففي وسط هذه المظاهر الساخنة اضطر الشاه في يناير 1892م أن يلغي امتياز الشركة وتبعا لذلك أن يظهر بمظهر الضعيف أمام رعيته، ولا يكاد ينتهي القرن التاسع عشر حتى يجبر السخط الشعبي الشاه مظفر الدين أن يذعن لوضع دستور للبلاد.

وقد تعرضت إيران مع مطلع القرن العشرين لسلسلة من المخاطر والاعتداءات الأجنبية من روسيا وإنجلترا بالتحديد، بالإضافة إلى الصراعات الداخلية بين الشاه محمد علي والبرلمان، واستخدام الشاه ذراعه القوية (الفيلق القوقازي) لتصفية خصومه السياسيين، لكن ذلك الصراع والمواجهة أجبرت الشاه في آخر المطاف أن يتخلى عن الحكم عام 1909م. وكان الاتفاق الروسي- البريطاني عشية الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918م) يتم على حساب إيران أيضا. وبنهاية الحرب أصبحت البلاد نهبا للأطماع الاستعمارية البريطانية- الروسية، إلا أنه في هذه الأثناء، وتحديدا عام 1921م والبلاد تنتظر منقذا لها، تسلم قائد فيلق القوقاز (رضا خان) وزارة الحربية وسرعان ما أصبح صاحب السلطة المطلقة في إيران، وفي سبيل أطماعه الكبيرة بالسلطة لم يقنع رضا خان بمنصب وزير الحربية فأصبح عام 1925م رئيسا للوزراء ثم ما لبث أن توج نفسه شاها على إيران بعد ذلك بفترة وجيزة مستغلا ضعف آخر شاه من أسرة الكاجارن.

لقد بدا أن الشاه الجديد يخطب ود علماء ومرجعيات الحوزات الشيعية فقد عفا دارسي الفقه من أداء الخدمة في الجيش، وحين أجبر قانون 1928م الإيرانيين على ارتداء الملابس الغربية أجاز الشاه لهؤلاء ارتداء الزي الإيراني التقليدي وسرعان ما حانت لحظة الفراق بين الشاه وطبقة علماء الشيعة عندما زارت أم الشاه في مارس 1928م مدينة (قم) المقدسة، وأثناء تأديتها لبعض الطقوس الدينية سقط الحجاب عن وجهها مما أثار حفيظة رجال الدين ووبخ أحدهم أم الشاه، الأمر الذي دفع الشاه القدوم إلى (قم) ومعه 400 جندي لتأديب من في الجامع من العلماء، وصفع الشاه بيده رجل الدين الذي عنف أمه، وكأن الشاه يريد تأديب طبقة العلماء التي شكلت لقرون قوة تأثير غير عادية في إيران، خاصة في مناحي القضاء والفقه والحياة الدينية. فقد كانت رغائب الشاه تتجه دون خفاء نحو قانون علماني موحد للبلاد مأخوذ من الغرب، بينما مفاهيم طبقة علماء الشيعة المؤثرين تستند إلى أنهم ممثلون ووكلاء عن الإمام الثاني عشر الغائب الذي سيكون من حقه يوم القيامة أن يصدر حكمه ببراءة أو إدانة البشر.

لقد رأى علماء الشيعة في إصلاحات الشاه رضا خان القانونية وفق منهاج وضعي غربي احتقارا للإمام الثاني عشر، والشاه نفسه لم ينجح تماما في إصلاح قانوني وفقا لروح العلمانية الغربية فالقانون المدني الإيراني ظل على حاله تقريبا وفقا للمبادئ الشيعية. وعندما اندلعت رياح الغضب والثورة على الشاه في مدينة (مشهد) المقدسة، وبالتحديد من أمام ضريح الإمام علي الرضا (الإمام الثامن) استخدم جنود الشاه أسلحتهم الرشاشة لقمع الثائرين وقتلهم وإنهاء معارضتهم لتحديث إيران وفقا للأنماط الغربية. وهكذا كان على إيران أخيرا أن تفقد شيئا من صورتها التقليدية فلم تعد المآذن بل مداخن المصانع وسفور المرأة من معالمها اللافتة للنظر (كونسليمان).

وشاء الشاه أن تكون خطواته التغريبية تسير على منهاج التجربة الألمانية في تحديث إيران، حتى إذا ما قامت الحرب العالمية الثانية (39-1945م) ضغطت بريطانيا عام 1941م بخروج كل الألمان من أراضي إيران، وتكرر الطلب مرات بلهجات شديدة الحدة، بينما كان الجار الشمالي الأقوى (الاتحاد السوفيتي) يقاتل ضمن صفوف الحلفاء ضد ألمانيا وحاجته ماسة إلى دعم لوجستي سريع عبر الأراضي الإيرانية ما دفع بريطانيا والاتحاد السوفيتي أن يغزوا إيران في أغسطس 1941م ويقوما ببناء ممر آمن للاتحاد السوفيتي عبر الأراضي الإيراني،ة عندئذ تنازل الشاه رضاخان عن العرش لابنه محمد رضا بهلوي في 16 سبتمبر 1941م.

بإلقاء نظرة متفحصة على السلطة الدينية من الداخل سنجد أن لدى الشيعة الاثنا عشرية في القرنين الماضيين نفوذا كبيرا وسلطة مطلقة في التعريف بالمذهب الشيعي قراءة وتفسيرا وشرحا، فأصبحت بمثابة مرجعية كبرى في الحياة الدينية تساعدها شبكة ضخمة ومنظمة من الحوزات والمدارس العلمية والدعاة الذين يبلغون زهاء 200.000 (مائتي ألف) رجل دين شعيي حول العالم، وبمنطوق الفهم الشيعي يكون على طالب العلم الشيعي قدرته على الاجتهاد، مع العلم أن باب الاجتهاد لم يغلق لدى الشيعة كما هو حال الاجتهاد لدى السنة الذي أغلق منذ سقوط الخلافة والدخول في عصور الانحطاط المتعارف عليها . ويمكن الاعتماد في تدعيم الخط الاعتقادي الشيعي بتداخلاته العنكبوتية المعقدة بالأموال الطائلة التي تسيل سيلان السيل من الروافد المختلفة لتصب في خزانة المرجعية الأم (النجف) أو بعض الفروع الأساسية فالأتباع والمعتقدون في كل أنحاء العالم يدفعون دون تردد مع الحفاظ على سرية المصدر في المرجعية، ويكون المال دون سلطان رقابي عليه، عكس التمويل الذي تتلقاه الجهات السنية المختلفة. .

وبهذا يصبح لدى المرجع الشيعي مقدرة خاصة على إنشاء شبكة من العلاقات الاجتماعية والاقتصادية التي تؤهله أن يصبح مرجعا مسموعا في الأوساط الشيعية. ويتضح الآن أن لدى المرجع الشيعي الأكبر آية الله السيستاني أكثر من 2000 ممثل ديني شيعي حول العالم، أما موارده المالية فإنها غزيرة جدا، وتوجد مكاتب تمثيلية للسيستاني في افريقيا، نيويورك، لندن، باريس، دمشق، بيروت، لاهور، كراتشي، تبليسي، باكو ومدن أخرى.

وليس بخاف على أحد أن المشاهد الشيعية المقدسة في (قم ومشهد) بالتحديد قد استفادت من الظروف التي عاشتها المرجعية الأم في النجف إبان فترة حكم البعث مع بروز الدور المؤسسي السياسي الذي تقوده الدولة الإيرانية بعد انتصار الثورة الإسلامية عام 1979م، فبهذه الثورة ووصول الملالي إلى سدة الحكم جرى الانقلاب الكبير في الصيغة الشيعية المتعارف عليها، من حركة دينية تعليمية تدير شؤون أتباعها الدينية، إلى نهج سياسي وأيديولوجي منظم تمارسه الحكومة الإيرانية منذ بداية حكم آية الله العظمى الخميني. وعلاوة على ما لحق بالمؤسسة الشيعية في النجف من أذى وضرر وتهميش على يد الحكومة العراقية فإن ممارسات الحكومة الإيرانية بعد الثورة اتجهت إلى إفقاد هذه المؤسسة سلطتها الدينية المستقلة وتحويلها إلى فرع يتبع المؤسسة السياسية الحاكمة في إيران. وبعد سقوط نظام صدام حسين ودخول القوات الأمريكية إلى العراق واحتلال أراضيه عام 2003م اكتسب المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني شهرة واسعة في الإعلام الخارجي ولدى الأوساط الغربية إلا أن دوره الداخلي بدأ يتقلص تدريجيا بسبب الاحتلال وما يلحقه بالعراق من أضرار كبيرة، وما يتعرض له السنة من تصفية وأعمال انتقامية من مليشيات تحسب على الشيعة وإيران، علاوة على تداخل المفاهيم والاعتقادات الشيعية المختلفة ومدى تأثيرها على المرجعيات الأساسية وهو ما يمكن فهمه من استعراض ما حدث مؤخرا من مواجهة دامية عشية ذكرى عاشوراء بين القوات الحكومية والأمريكية وأتباع ما سمي (جند السماء) وراح ضحيتها أكثر من ألف شخص ما بين قتيل وجريح وأسير، وزعم قائد هذه المجموعة أنه التقى بالإمام الثاني عشر المهدي في السماء، واتجاه نيته لإحداث تفجيرات تأتي على المرجعية نفسها إذ لا مرجعية قائمة في حال اقتراب عودة الغائب (المهدي) المنتظر.

ومن ذلك يمكن رصد ما تحدث به الرئيس الإيراني أحمدي نجاد عن عودة المهدي المنتظر، ووضعه في دائرة استنفاد دور المرجعيات، ويعكس ايضا المنافسة الخفية بين المؤسسة الدينية والسياسية، أو هو تزاوج واندماج في ذات الأشخاص والأهداف لمزيد من السيطرة على مقاليد الأمور سواء في إيران أو منها انطلاقا إلى العراق وبقية المنطقة ببزة دينية تخفي الأطماع التاريخية والسياسية، مُسيّجة هذه المرة بالتهديد النووي.

المراجع:

1- محمد أبو زهرة :الإمام زيد

2- د. عبدالمنعم الحفني: موسوعة الفرق والجماعات والمذاهب والاحزاب والحركات الإسلامية

3- جرهارد كونسلمان: بزوغ نجم الشيعة

4- المجلة (مجلة العرب الدولية)

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى