حديث الحكماء

> فضل النقيب:

>
فضل النقيب
فضل النقيب
يقول (طاغور): يريد البخور أن يتحد مع العبير، والعبير أن يلتف حول البخور، يريد اللحن أن يتشكل في إيقاع، والإيقاع أن ينقلب إلى لحن. يتلمس الشعور تجسُّداً في الشكل، والشكل لا يريد أن يوجد إلا في الشعور. يطلب اللا محدود وجودا حميما في المحدود، ويريد المحدود أن يغيب في اللا محدود. لا أدري نظام من هذا في دورة أبدية من بداية ونهاية. أن يكون بين الشعور والشكل مثل هذا التبادل. أن يكون المقيد في بحث عن الحرية، وأن تطلب الحرية إدخالها في المقيد.

هكذا رأى طاغور شاعر الهند المتألق عبر العصور الدائرة الوجودية، والإنسان ليس سوى ملمح فيها ينسكب كدمعة تصعد من شغاف الروح ثم تتلاشى في العدم. كل شيء مستعار إلى حين، ثم يُردّ إلى واهبه: الصحة، المال، الشباب، الأحلام، نبدأ من الصفر، نطفة في قرار مهين، وننتهي إلى الصفر جيفة في حفير مكين، وأمام الإنسان فرصة قصيرة كومضة الضوء ليكون شيئا مذكورا بين عدمين:

نفسي التي تملك الأشياء ذاهبة

فكيف أبكي على شيء إذا ذهبا

يقول طاغور ابن الطبيعة الذي خلده الإبداع وجعل منه قلباً في كل قلب يعشق الحكمة ويهيم بالتأمل النقي: «كان في معزفك غناء، وفي سلّتي زهور، وريح الجنوب تميل بنا ذلك اليوم. موجة لا يعرف أحد كنهها ملأت الجو، عندما انسكبت ألحانك على ألوان زهوري. ذلك اليوم حسبت في إيقاع لحنك أن تفتّح الزهور في قلبي سيدوم إلى الأبد. لكن اللحن تلاشى والزهرة لم تعد تتفتح في المساء. وفي تلاعب الريح العذب أخفق شيء ما».

دائما هناك شيء ما يخفق ، إن لم يكن صريحا فسيبدو ما نعدّه نجاحا إخفاقا صارخا، وعلينا الاختيار بين إخفاقين «فقلت هما أمران أحلاهما مر». قال هارون الرشيد لطاووس اليماني: عظني. نظر الحكيم إلى كأس الماء بين يدي الخليفة، فقال: يا أمير المؤمنين، لو انقطعْتَ في صحراء مترامية وأوشكت على الموت عشطا بكم تشتري هذا الماء. قال: بنصف ملكي. قال فإن حُبس في جسدك ولم تستطع إخراجه وأوشكت على الموت بكم تشتري علاجك. قال: بنصف ملكي. قال الحكيم فما قيمة ملك نصفه يساوي شربة ماء، ونصفه الآخر يشتري بولة بالكاد. قيل إن عيني هارون اغرورقتا وقد كُشف عنه الحجاب، وهو الذي كان يخاطب السحب في السماء: أمطري حيث شئت فإن خراجك آت إليّ.

يقول برتولد بريخت نقلا عن أو على لسان الحكيم الصيني لاوتسو: حين بلغ السبعين وصار واهناً، أحس المعلم بالحاجة إلى الاعتكاف في هدوء، فقد أخذ الخير في بلده يضعف من جديد، وعاد الشر يقوى ثانية، فأخذ يخبُّ في حذائه، أربعة أيام بين شعاب الجبل، ثم حاجز، حيث سألهما هو وصبيّه رجل جمارك: أيّة نفائس تحملان؟ شرح الصبي الذي يجر الثور: العجوز يعلّم، وهكذا صار كل شيء واضحا. عاد رجل الجمارك بمزاج مرح ليسأل: عفواً.. ماذا يعلم؟ فقال الصبي: يعلم كيف يُبلي الماء الواهن، بالتآكل عبر الزمن، الصخور الصلدة . إن الصلابة لا بد أن تخسر.. أفهمت..؟

هكذا تحدث الحكماء.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى