«الأيام» تصعد جبال منطقتي براط وقصابة بالأزارق وتستطلع أوضاع الأهالي ..الفحم والحجر الأبيض والرعي وسيلة العيش والجمال والحمير للنقل

> «الأيام» عسكر صالح ناجي:

>
صورة الطريق المؤدية الى براط وقصابه
صورة الطريق المؤدية الى براط وقصابه
براط وقصابة منطقتان منسيتان من مئات المناطق المحرومة في مديرية الأزارق بمحافظة الضالع التي مازالت تشكو وحشتها وتبحث عن مؤنس، تقع براط جنوب غرب عاصمة المديرية وتبعد عنها حوالى 6 كيلومتر وهي تشبه السفينة الراسية على الشاطئ في تكوينها الجغرافي.

وعلى بعد 1 كيلومتر في الضاحية الأخرى تقع منطقة قصابة التي تشبهها في نمط عيش السكان وفي عاداتهم وتقاليدهم وفي معاناتهم اليومية التي تعتبر القاسم المشترك بينهما ولا تختلف عنها إلا في الموقع والتسمية.

أهالي براط وقصابة يعيشون حياة أشبه بالحياة البدائية المعقدة، فالمشاريع غائبة والحرمان جاوز الحدود والعذاب وصل حتى النخاع، فلا تعليم ولا صحة ولا كهرباء ولا طرقات ولا مياه، والجمال والحمير والفوانيس أصدقاء أوفياء للأهالي يقدمون لهم خدمات كثيرة ولا يفارقونهم في حلهم وترحالهم، في ليلهم ونهارهم حتى يلقوا ربهم. يبلغ عدد سكان براط وقصابة حوالى 1200 نسمة يعتمدون في دخلهم على رعي الأغنام وعلى مردود الفحم (السود) والحجر الابيض (البياض) الذي يستخرج من باطن الجبل ليستخدم لتزيين وطلاء البيوت المطلية من الداخل بالطين. أهالي براط وقصابة حفاة عراة لم يذوقوا طعم الراحة قط، لا يكلون ولا يملون ، ويقضون معظم أيامهم في المشي، يصلون نهارهم بليلهم لقطع أكثر من 38 كيلومترا ذهابا وإيابا إلى المحافظة لأن أجرة السيارة أضعاف ما يبيعونه.

لم يستسلم أهالي براط وقصابة للواقع المر والظروف القاسية ولم يمدوا أيديهم للناس إلحافا، فراحوا ينحتون في الصخر الأصم بحثا عن ملاذ آمن من شبح الفقر وهربا من كوابيسه، عن لقمة نظيفة تطفئ لهيب البطون، ولهذا لا عجب ان رأيتهم يخوضون معركة حامية الوطيس مع الصخر تارة يهزمونه فيحولونه إلى قطع صغيرة يحملونها على ظهور الجمال والحمير ويذهبون بها إلى السوق لبيعها وتارة يهزمهم ويحدث هذا بأن تهوي الكهوف التي يحفرونها بحثا عن الصخر على رؤوسهم فتحول البعض منهم إلى جثث هامدة .

«الأيام» كعادتها في تحقيق هدفها بإيصال أصوات المظلومين والمقهورين، تحملت عناء السفر وعذاب الطريق، رحلت إلى هناك حيث يستوطن الحرمان، إلى براط وقصابة بالأزارق .. وبعد قضاء يوم كامل خرجت بالحصيلة التالية:

براط وقصابة منسيتان تشكوان وحشتهما وتبحثان عن مؤنس
البداية كانت من محافظة الضالع بالمرور عبر (معشوقة المقاولين) وهي طريق جبلية ترابية سميت بهذه التسمية لأن جميع المقاولين يحنون إليها ويودون التقرب منها والزواج بها منذ ما يقارب عشر سنوات، لما تتمتع به من جمال وقوام رشيق إذ لا يتعدى طولها (13) كم إلى الازارق و(59) كم إلى المسيمير وكذلك لمهرها البخس البالغ ملياراً ومائتي مليون ريال. ففي كل 3 سنوات بل وأكثر يقوم الوالي بعقد قرانها وتزويجها على أحد المقاولين وهي رافضة، والذي يقوم بدوره بالتمتع بجمالها مستغلاً طيبة أهلها وسكوتهم ومستمتعاً بمشهد تساقط أهلها ضحايا على جسدها جراء الحوادث المتكررة يوماً بعد يوم، فتظل معه كل هذه المدة بكرا دون أن يدخل بها حتى يطلقها، وهكذا ظلت تتزوج واحداً تلو الآخر حتى يومنا هذا، وبعد أن أمضينا ساعة مشياً بالسيارة وصلنا إلى عاصمة المديرية (ذوجلال). بدأنا بالتحرك ثانية لكن هذه المرة راجلين لأنها الوسيلة الوحيدة التي تحقق الوصول إلى منطقتي براط وقصابة القابعتين خلف سلسلة من الجبال المرتفعة، وبعد مضي 5 ساعات استطعنا الوصول الى هاتين المنطقتين والالتقاء بمواطنيها الذين التفوا في البداية حولنا مشكلين دائرة مغلقة، بعد أن أصابتهم الدهشة والاستغراب فور وصولنا، ولكن عندما تبين شرف الزيارة وتبين لهم أن صحيفة «الأيام» تكرمت بزيارتهم انهالت علينا عبارات الترحيب التي أخجلتنا من جميع الحاضرين تتبعها أكواب الشاي التي تفوق عددنا وهي أقصى ما يستطيع تقديمه سكان هاتين المنطقتين.

حفاظاً على أرواحنا نطالب بتحويل مسار الطريق
< كان أول المتحدثين المواطن علي قائد خالد من أهالي قصابة، وتحدث بشأن الطريق قائلاً : أشكر صحيفة «الأيام» الوسيلة الإعلامية التي كان لها السبق في الوصول إلينا في هذه المنطقة النائية، أما بالنسبة للطريق فلدينا طريق اعتمدتها الحكومة تسمى طريق نقيل فرع تربط منطقتي براط وقصابة بمنطقة عباب وبعاصمة المديرية، وقد بدأ العمل فيها قبل حوالى (10) أشهر بكلفة مالية قدرها ثمانية ملايين وسبعمائة ألف ريال، وهي طريق صعبة ومعقدة وغير مؤهلة مستقبلاً لمرور السيارات وتحتاج إلى إصلاح دوري بسبب هطول الأمطار ومرورها بأكثر من مجرى للسيول، كما أنها تعرض الأهالي للخطر أثناء المرور بها. وقد حاولت الحكومة في فترات سابقة إنجازها ولكنها تعثرت، وحفاظاً على أرواح المواطنين فقد تقدمنا بطلب إلى المجلس المحلي بغرض تحويل مسار هذه الطريق لتمر بمنطقة نقيل فحيليله بدلاً من مرورها بنقيل فرعة، فهذه الطريق سهلة جداً وتكلف الدولة أقل، وبعد رفض المقاول والمجلس المحلي الذي لم يحرك ساكنا فإننا نحملهم مسؤولية المشاكل المستقبلية التي ربما تحدث للأهالي لعدم تغيير مسار الطريق من الطريق الصعبة والطويلة إلى الطريق السهلة والقصيرة .

< وعن الحالة الصحية في هاتين المنطقتين تحدث الأخ علي محمد مثنى، عامل صحي في الوحدة الصحية بالحقل، قائلاً: لا توجد وحدة صحية في هذه المناطق ويقوم الأهالي بالذهاب إلى منطقة الحقل على بعد حوالي 4كم للحصول على أبسط الخدمات الصحية، أما عن مواجهة الحالات الإسعافية الطارئة فنقوم بحمل المريض على (الحضة) النعش أو على ظهور الجمال والحمير، وننقله إلى منطقة الحقل أو عباب، ومعظم الحالات لا نستطيع إيصالها فتموت في الطريق .

نقص المعلمين والفصول ومستوى التحصيل متدنٍّ
< وعن الوضع التعليمي تحدث المواطن عبده محمد قاسم، من أهالي براط، قائلاً: لدينا أربعة فصول يدرس فيها أبناء براط وقصابة من الصف الأول حتى الرابع، وبعد ذلك يضطر الطلاب إلى قطع مسافات بعيدة لإكمال تعليمهم في منطقة عباب، أما أغلبية الطلاب فيتركون الدارسة نتيجة لبعد المسافات، كما يعاني الطلاب من الازدحام وتأخر وصول الكتاب وغياب الكادر التعليمي، إذ أن هناك أربعة مدرسين لأربعة فصول دراسية، ومستوى التعليم لدى أبنائنا متدنٍ.

نفوق أغنام وأبقار بسبب المياه الملوثة
< وعن المياه تحدث المواطن محسن أحمد مثنى، أحد أهالي منطقة براط قائلاً: لا توجد آبار في هاتين المنطقتين، ويعتمد الأهالي في الحصول على مياه الشرب على سد قاموا بتشييده على نفقتهم، وكذلك من بعض الحواجز الترابية، كما قامت الحكومة بتمويل من البنك الدولي بترميم سد تابع للأهالي لغرض الانتفاع بمياهه في سقي الأغنام والمواشي، لكن هنا السد مدة بقاء المياه بداخله قصيرة جداً لا تتعدى خمسة أشهر، ونتيجة لشرب الأهالي من هذه المياه الملوثة إنهم دائماً ما يصابون بالأمراض، بالإضافة إلى نفوق أعداد من الأغنام والأبقار بسبب شرب المياه الملوثة.

جزء من البيوت المنتاثرة في براط
جزء من البيوت المنتاثرة في براط
أهالي براط وقصابة يخوضون معركة حامية الوطيس مع الصخور
< وعن الحالة المعيشية للسكان والتي يخاطر ويجازف الأهالي بأرواحهم والتي يذوقون فيها طعم الموت في كل لحظة يقضونها في البحث عن لقمة نظيفة، تحدث المواطن أيوب حسن محمد البراطي بكلمات خجولة بعد أن أمسك بعصا صغيرة وبدأ يخط بها على التراب وهو يشرح قائلاً: ماذا أقول فأنا لا أملك أي مصدر للدخل، فأنا أقوم بصناعة الفحم (السود) وأبيعه في الأسواق لأصحاب (اللوكندات) والمطاعم لاستخدامه في شيّ اللحوم والتدفئة بالطريقة التقليدية، كما يستخدمه الحدادون في تليين الحديد وتغييره من شكل إلى آخر.

ونقوم بالبحث عن الصخور البيضاء ( البياض) في بطون الجبال بعد أن نحفر حفرة صغيرة في الجبال، ثم نواصل الحفر حتى نعثر على الصخر المطلوب، وقد يصل طول بعض الحفر إلى حوالي 30 مترا، وهي حفر مظلمة وعميقة ولا نستطيع الدخول إليها بلا إضاءة كافية، حاملين معنا الفانوس الصديق الذي لا يفارقنا سوى أثناء عملنا فهو من يخفف وحشة الظلام التي نعيشها، وفي بعض الأحيان نقوم بالبحث عن الصخر داخل هذه الحفر فنحصل على الموت بعد أن تهوي الكهوف (الحفر) على رؤوسنا، وقد حدث أن توفي العشرات من أهالي هذه المناطق في بعض من هذه الحفر أثناء بحثهم عن الصخر، ولكن لأنه لا يوجد مصدر دخل آخر لدى الأهالي فإننا نضطر إلى المخاطرة بحياتنا وحياة أسرنا بحثاً عن لقمة عيش، وعلى كل واحد منا أثناء الدخول أن يؤمن في قرارة نفسه بأنه ربما لن يعود إلى أهله إلا جثة هامدة، وعندما نحصل على الصخر نقوم بحمله على ظهور الجمال والحمير والسفر به ليلاً برفقة الفانوس إلى محافظة الضالع وبعض القرى،وبعد مضي ليلة ونصف نصل إلى المحافظة ومن ثم العودة، وهكذا نقضي معظم أيام السنة.

الرجل البراطي لا يكل ولا يمل ويقضي معظم أيامه في المشي
< أما آخر المتحدثين فكان الشيخ عبده قائد خالد، من أهالي قصابة، الذي قال: أبناء هذه المنطقة محرومون من أبسط الحقوق، ومعاناتهم لا توصف، ودور السلطات المحلية غائب. فتصور أن الشباب في هذه المنطقة لم يستطيعوا الالتحاق بالجيش فحدث أن شابا من منطقة قصابة سجل اسمه أكثر من 35 مرة، وفي كل مرة يقولون له إنه ناقص في الطول واحد سنتيمتر، ومرة يقولون له زائد في الطول واحد سنتيمتر، وهذا أبسط مثال للتجاهل والحرمان. ونحن نطالب الحكومة والسلطات المحلية والمنظمات الإنسانية بانتشال سكان هاتين المنطقتين من مستنقع الفقر والعذاب، وتوفير حياة كريمة لهم أسوة ببقية المناطق.

هذا جزء من المعاناة التي يعيشها سكان براط وقصابة التي طفح بها الكيل، وما خفي كان أعظم وإلى هنا تنتهي رحلتنا معهم فإلى رحلة قادمة ننقب ونبحث وننبش فيها عن المعاناة الحقيقية وعن أسرار حزينة مدفونة في أعماق أبناء الأزارق.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى