حرب النهر..رواية تشرشل «العنصرية» لقصة احتلال بريطانيا للسودان

> القاهرة «الأيام» سعد القرش:

> يحضر الغطاء الأخلاقي الذي يتوسل بالدين قبل بدء المعارك ومنها الحرب الأمريكية على أفغانستان 2001 والعراق 2003 كما يتخذ مبررا للحروب بأثر رجعي كما في حالة الاحتلال البريطاني للسودان في ثمانينيات القرن التاسع عشر.

وأعلن الرئيس الأمريكي جورج بوش أن الحرب على أفغانستان "صليبية جديدة" ورغم قوله إن تصريحه زلة لسان فإن محللين عربا وأمريكيين يرون أنه عبر عن الحقيقة دون أقنعة وهو ما لم يكن رئيس الوزراء البريطاني الأشهر ونستون تشرشل مضطرا له في كتابه (حرب النهر) الزاخر بآثار "عنصرية" تجاه السودان الذي وصف أهله بأنهم "أعداء الله" وإن أقر بأن الزعيم محمد أحمد المهدي "أعظم أبطال عصره".

ويبدو وصف تشرشل للمهدي جزءا من سلوك المنتصر تجاه بطل عنيد أربك حسابات الإمبراطورية البريطانية بعض الوقت حين قاد ثورة أو "حركة اجتماعية وعنصرية... قبل عام 1881 لم تكن هنالك أي حركات تعصب في السودان" مشددا على أن المهدي كان السبب المباشر لحرب بريطانيا على السودان كما يقلل أحيانا من شأن انتصارات المهدي ويرجعها إلى تخبط أعدائه.

ويتناول كتاب (حرب النهر) الذي صدرت ترجمته عن دار الشروق بالقاهرة بعنوان (تاريخ الثورة المهدية والاحتلال البريطاني للسودان) السياق التاريخي للبلاد حين كانت خاضعة للسيادة المصرية ومجيء القائد البريطاني تشارلز جوردون ليكون حاكما للسودان (1875-1879) بعد أن سبقته شهرته كقائد لجيش منتصر دائما حيث كانت "السمعة الشريرة للسودان تمنع أي ضابط متعلم من الإقدام للخدمة في تلك المناطق النائية." ويقول المؤلف إنه في عام 1883 تجمع أكثر من 40 ألف مقاتل تحت علم المهدي الذي رفض الاستسلام للجنرال هيكس ودارت معارك دمر فيها جيش "الغزاة. وقتل كل الضباط الأوروبيين بمن فيهم القائد هيكس. كان مقاتلا اكتسب احترام أعدائه الشرسين" وأصبح المهدي سيد السودان.

ولا يقتصر تشرشل في الكتاب على وصف المعارك العسكرية بل يمتد تحليله لما هو أبعد. إذ يرى مثلا أن هناك علاقة خاصة بين مصر والسودان الذي "يرتبط بمصر عن طريق النيل كالغواص الذي يرتبط بالسطح بأنبوبة الأكسجين. بدونها ليس هناك سوى الاختناق. لا حياة بدون النيل".

كما يرسم صورة تشكيلية لجغرافيا السودان قائلا إن النيل يجري في الصحراء "كخيط من الحرير الأزرق يسبح على مجرى بني هائل. وحتى هذا الخيط ينقلب لونه إلى بني غامق كل نصف عام" مشيرا إلى أنه في سرد قصة حرب النهر فإن النيل له اليد الطولى وأنه سبب الحرب "ومن خلاله نحارب وهو النهاية التي نرغبها".

ويقع الكتاب في 471 صفحة كبيرة القطع وترجمه السوداني عز الدين محمود الذي أشاد بموهبة تشرشل الأدبية واعتبر كتابه "درة في جبين الأدب الإنجليزي" لكنه أشار إلى وجود روح التشفي والسخرية التي دفعت تشرشل إلى عدم التوقف أمام انتصارات رجال المهدي في حين يسهب في وصف انتصارات الغزاة البريطانيين.

ووصف محمود ترجمة الكتاب بأنها عمل وطني مهم لكنه اعترف بحذف "أي تعبير قد يشتم منه إساءة لمصر أو السودان ورضيت بأن يقال إن الترجمة غير دقيقة في بعض مواضعها على أن أتهم بأنني أروج إساءات لبلدي" كما شهد بحياد تشرشل في بعض المواقف وإنصافه للرجال "الشجعان الذين قاتلوا بشرف واستشهدوا بشرف." وأضاف في هامش أن تشرشل قاد إحدى الفرق العسكرية أثناء الزحف النهائي على أم درمان عام 1898 ضمن معركة يصفها تشرشل بأنها "معركة إعادة الغزو".

وقال السير جون كولفيل مساعد السكرتير الخاص لرئيس الوزراء في عهد تشرشل في مقدمة الكتاب إن "الروح الاستعمارية لدى تشرشل والتي كانت تشمل مشاعر أبناء ذلك الجيل من بني وطنه في عهد الإمبراطورية تظهر بوضوح في هذا الكتاب. ولكن يجب علينا أن نحكم بما كان سائدا إبان العهد الفيكتوري وليس بما هو شائع هذه الأيام" مشيرا إلى أنه في تلك الفترة وتحديدا عام 1899 حين كتب "الضابط الصغير" تشرشل هذا الكتاب وهو في الخامسة والعشرين لم يكن يساور بريطانيا أو فرنسا أو بلجيكا أو إيطاليا أو البرتغال أدنى أسف أو تردد في تقسيم افريقيا.

ويحظى تشرشل (1874-1965) بمكانة خاصة في بلاده إذ فاز في استطلاع أجرته هيئة الإذاعة البريطانية عام 2002 بلقب أعظم شخصية بريطانية متقدما على الأميرة الراحلة ديانا وتشارلز دارون ووليام شكسبير وعالم الفيزياء والرياضيات إسحق نيوتن والملكة إليزابيث الأولى.

وتولى تشرشل وزارة الداخلية ثم أصبح المسؤول الأول عن سلاح البحرية فوزيرا لشؤون الذخيرة ثم سكرتيرا للمستعمرات ثم وزيرا للخزانة وعين رئيسا للوزراء مع نشوب الحرب العالمية الثانية حيث كون مجلس حرب محتفظا لنفسه بمنصب وزير الدفاع. وبعد انتهاء الحرب هزم في انتخابات عام 1945 وأصبح زعيما للمعارضة ثم عاد إلى رئاسة الوزراء بين عامي 1951 و1954 ونال جائزة نوبل في الآداب عام 1953 . ويقول تشرشل في الكتاب إن المهدي "وضع في قلوب قومه الروح والحياة وحرر بلاده من الحكم الأجنبي.

إن بسطاء الناس الغلابة الذين كانوا يعيشون شبه عراة وقوتهم لا يخرج عن كونه بعض الحبوب الجافة فجأة وجدوا معنى جديدا للحياة بعد أن استطاع المهدي أن يغرس في صدورهم الحس الوطني الجارف والوازع الديني القوي."

ويضيف أنه بعد هزيمة الجيش الغازي عام 1883 ومصرع قائده هيكس قفزت فكرة الاستعانة بالجنرال جوردون الذي وجد نفسه بعد وصوله إلى الخرطوم عام 1884 "محاطا بحركة وطنية جبارة ومد ثوري ضد كل ما هو أجنبي" وأورد يوميات جوردون التي كتب فيها "يجد المرء تسلية في تصور هذا المزيج العجيب من البشر الذي يرافق المهدي. أوروبيون قساوسة وراهبات. إغريق وضباط نمساويون.." وفي يناير 1885 بدأت معارك يصف فيها تشرشل أنصار المهدي بأنهم "العدو الوحشي" الذي تسلل إلى الخرطوم وذهب بعضهم إلى القصر وخرج إليهم جوردون "هذا الشخص العظيم الشهير ومندوب مملكة بريطانيا... لم يتمكن من عمل شيء مع جنون الفرحة بالانتصار والاندفاع الديني" فقتلوه واستولوا على المدينة ونظرا "لقوة العدو المنتصر" أجليت القوات البريطانية عن السودان بعد التخلص من المؤن برميها في النيل وأصبح المهدي حاكم السودان ثم تعرض بعد أشهر لمرض أسلمه إلى الوفاة.

ويروي تشرشل أن جثة المهدي ظلت في قبر عميق بالغرفة التي توفي بها حتى أمر الجنرال هربرت كتشنر (1850-1916) بإخراجها عام 1898 حين دخل أم درمان بعد معارك ثبت فيها أن "شجاعة السود لا تقل اشتعالا عن رصاص بنادقهم" ورغم هذا يصفهم تشرشل بأنهم "أعداء الله".

ويشير في فصل عنوانه (سنوات التحضير) إلى أن أجهزة الاستخبارات البريطانية ظلت عشر سنوات تجمع معلومات عن تاريخ السودان وجغرافيته ومواطنيه وكل ما يتعلق به بما في ذلك الطقس حيث انتشر الجواسيس وسط الجماهير في كل مكان وكانت المعلومة التي يهمس بها هناك تدون في القاهرة "حتى أخبار المشاجرات التي لا تنتهي تم تسجيلها بدقة متناهية." رويترز

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى