مفاهيم عظيمة.. مذبوحة على الطريقة العربية

> حسن علي كندش:

>
حسن علي كندش
حسن علي كندش
تدريجياً وجدنا أنفسنا نلوك مفاهيم عظيمة.. كانت إلى عهد قريب تثير في النفس الشجن لأحلام التغيير.. وتبعث فينا أمل التباهي بها مع العالم المتحضر.. وإذا بنا نمارس الامتهان لهذه المفاهيم من خلال الاستجرار الفج لها حتى أضحت مستهلكة ومملة.. بل ومفرغة من معانيها الحقيقية لدينا.. تدعو إلى السخرية والتهكم أكثر مما تدفع نحو الحركة والتطور.

هذه المفاهيم مثل «ديموقراطية، تداول سلمي للسلطة، دستور، شفافية، انتخابات، حقوق الإنسان، حقوق المرأة، حقوق الطفل، حرية التعبير، منظمات الجتمع المدني، تخطيط ،قوانين، الخ..» تم سحبها من رأسها لنمسح بها بلاط العروش العربية.. بالقروش العربية.

تلك المفاهيم القيمة يتم التشدق بها ذهاباً وإياباً هبوطاً وصعوداً ليلاً ونهاراً في كل مكان ومناسبة.. دون أي إحساس بقيمتها التاريخية والإنسانية.. حتى وصل الأمر حد تجريدها من قوتها المعنوية ومن حقوق الملكية الفكرية لمن أبدعها.. أو نفذها في أي بقعة من بقاع العالم وعلى مر التاريخ المعاصر.

هي إذاً مفاهيم عالية الجودة قدمت لنا بدون حق امتياز -في حين كلف إبداعها غالباً- شريطة المحافظة على الطعم والنكهة.. لكننا نحاول جاهدين الإبقاء على الشكل فقط.. بل وأحياناً نفشل حتى في هذا بسبب الخواء الفكري والتزييف.. وبالتالي يضيع المنتج الحقيقي من بين أيدينا.. لأن لدينا «آلات حكم صناعية» إما عفى عليها الزمن ولم تعد مواكبة للمنتجات الحديثة.. أو أنه لم تعد لدينا القدرة الاستيعابية لهكذا منتج.

تلك إذاً هي مفاهيم متطورة.. لها سلسلة من الاستحقاقات الثقافية والأخلاقية يجب الإيفاء بها والالتزام لها سلوكيا.. وليس الأمر مجرد كلمات نتداولها في الخطاب الإعلامي والسياسي ببلاهة وفهلوة..هنا أو هناك سواء بهدف الابتزاز أم للتزييف.

مفاهيم عالية يستخدمها البعض في كثير من الأحيان للارتزاق إعلامياً.. من خلال وضعها فاترينات لمحلات تختزن بضاعة تالفة من زمن.. والبعض الآخر يضعها مساحيق وأصباغ كمكياج يزين بها وجوها قد شوهتها أصابع التاريخ.

مفاهيم سامية ينادي بها البعض أمام كاميرات التلفزة الرقمية وبأحدث رباط العنق، وبعد التصوير يتم الخنق لمن يصدق.

مفاهيم مضيئة نستدعيها إلى القاعات الفارهة في الاجتماعات الوهمية على الطاولات الأنيقة بينما من تحت ترفل أقداما في مضارب ما زالت مليئة بروث الإبل.

مفاهيم لذيذة نحلي بها بعد وجبات ماتكة متعفنة لم تعد تفيد لا أغذية بناء ولا طاقة ولا حتى مناعة تقدم لنا من مطابخ عربية عتيقة، ومن أيادي طباخين غير مهرة، لم يعد أحد منهم يجيد حتى إعداد السفرة، فما بالكم بالطعام.

مفاهيم رفيعة فكريا ، يتم العبث بها من خلال بعض الأقلام والأفواه الملوثة والمعروضة بالمزاد لعلها تروج لورشة تعيد إنتاج الخردة .. أو تحاول تغليف الخراب بتلك المفاهيم .

مفاهيم جذابة .. يتم المتاجرة بها كشعارات وماشيتات إعلامية للاستهلاك المحلي .. في سوق للسياسة قد بات خالياً ليس فقط من المشترين .. بل حتى من رفوف العرض المحترمة.

مفاهيم راقية .. نستوردها مع أحدث سيارات المرسيدس .. لنتباهى بالتحضر .. بينما من خلفنا ومن أمامنا ألف ناقة وناقة تثير غبار التخلف .. لتحمله رياح وقوافل القبيلة إلى مضارب الرذيلة.

إن تلك المفاهيم الراقية يستخدمها العالم المتحضر وسيلة لبلوغ أهداف نبيلة ترتقي بالحرية إلى مصاف القدسية .. وفي وقت انتزعنا نحن منها سموها .. وأفرغناها من قيمتها الأخلاقية .. وظللنا نتقاذفها من لسان إلى أذن ونحن نلهث اعتقاداً منا أنها قد أضحت حقيقة في تعاملنا .. إلى درجة أن أعداداً منا أخذت تنجر للبحث في قاع تخلفنا عن ما يثبت تأصيل بعض هذه المفاهيم فينا .. بل ويدعي أننا سبقنا العالم إليها.

هذه هي الكارثة بعينها حيث لم يعد يكفي أنك متخلف .. بل زد على ذلك أنك مزيف أيضاً .. وبدلاً من أن نحاول الاعتراف بالحقائق الساطعة .. ونصحح أنفسنا ومسارنا .. نلجأ إلى خداع أنفسنا .. وذلك من خلال الاستدعاء من مخازننا البالية بعض كلمات نلبسها معاني تلك المفاهيم وكأن هذا ما ينقصنا.

لا أدري كيف ينظر العالم إلى حالنا .. هل نبعث على الشفقة والرثاء .. أم الاحتقار والازدراء؟!

لماذا تم إفراغ تلك المفاهيم من معانيها وأهدافها .. وأضحت مثل فاترينة أنيقة في مهرجان تسوق لمحل عطارة قديم .. لماذا استخدمت هذه المفاهيم لتكريس الماضي بثوب الحاضر؟؟

لماذا نستخدمها لباساً أنيقاً وبأحدث خطوط الموضة على موميات وأصنام ..؟؟ لماذا نرشها عطوراً على ملابسنا بينما من تحت جلودنا مازالت تنبعث رائحة العفن ؟.. لماذا مكتوب علينا استقدام نتاجات العالم الفكري والتكنلوجي ومن ثم الإصرار على العبث بها بألاعيب الحواة والمشعوذين والدجالين؟!

وإلا كيف يمكن أن تتعايش الشفافية في كهوف ودهاليز أنظمة الحكم العربية؟! وكيف يمكن أن تتعايش «الديمقراطية» مع الأمن والتسلط والقمع والأقبية المهجورة ؟! وكيف ندعي ««حقوق الإنسان» تحت رعاية عشرات الأجهزة الأمنية التي تلاحق حتى الأنفاس؟

وكيف نتحدث عن «منظمات المجتمع المدني» بينما نسلط عليها حراب التلصص والاحتواء والتشويه ثم نجبرها على الارتزاق؟

وكيف لنا أن نتقبل «حرية التعبير» بينما نحن نستبق سوء النية.. ونسفّه الرأي الآخر قبل أن ينطق حتى.. ونخوّن ونكفّر بلا أي إحساس بالحقوق أو شعور بالمسئولية.. ثم كيف يكون «التداول السلمي للسلطة» أين طبق هذا المفهوم في الوطن العربي؟؟ أو غيره من المفاهيم الأخرى المتداولة لدينا.. لحتى أضحت للتزييف والتهريج ليس إلا.

إنها مفارقة مفزعة إذاً، أن تغدو تلك المفاهيم أسهماً هابطة القيمة في أسواق المجتمعات العربية .. بينما نحن أكثر شعوب الأرض احتياجاً لمعانيها لتحسين نوعية حياتنا الرديئة.

تلك المفاهيم التي أبدعتها عقول خلاقة من خلال تراكم معرفي عبر الزمن .. كان يمكن أن نتعايش معها بمصداقية.. ونحاول بها لملمة تبعثرنا من طرقات الضياع .. لكن ربما مازال ممكنا التعافي إذا ما أوقفنا التزييف في حياتنا .

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى