مستقبل الإسلام السياسي ومتغيرات السياسة الأميركية

> رضوان السيد

> عندما يكتب الباحثون الغربيون، وبخاصة الأميركيون منهم عن «الإسلام السياسي» في السنوات العشرين الماضية، فإنهم يعنون به عادة «الإخوان المسلمين» والحركات المشابهة. وقد ظل الأمر حتى اواخر الثمانينات من القرن الماضي مقصوراً على سؤال العنف، والموقف الحقيقي منه، خصوصاً ان الإسلاميين الحزبيين هؤلاء ليس من عادتهم استنكار الأعمال العنيفة التي تمارسُها الحركات الإسلامية الراديكالية (الجهادية) ضد أهداف غربية، أو ضد الأنظمة في البلاد العربية والإسلامية. لكن بعد حرب الخليج الثانية (1991) انتقل التساؤل في شأنهم الى حد بعيد باتجاه أمرين آخرين: كراهية الغرب، ومدى الالتزام بالديموقراطية. وبعد هجمات ايلول (سبتمبر) عام 2001 وما تلاها من تفجيرات وانتحاريات، وعلى رغم ان احداً من «الإخوان المسلمين» لم يشارك فيها، توقف كل نقاش من حولهم، وبدا كأنما المرادُ مواجهة الحركيين الإسلاميين جميعاً سواء كانوا يمارسون العنف أم لا، فالحرب - بحسب رامسفيلد وزير الدفاع الأميركي السابق - ليست حرب فرق عسكرية فحسب، بل ينبغي ان تكون ايضاً حرب أفكار. على ان خمس سنوات من الصراع العنيف، وحملات الديبلوماسية العامة، لم تجلب للولايات المتحدة ومنظّريها غير الخيبة والفشل، ليس من الناحية العسكرية والأمنية فقط، بل من الجوانب الثقافية والسياسية. الهجمات لم تنه الراديكاليين المقاتلين، وبرامج نشر الرسالة الأميركية، والقيم الديموقراطية، لم تنتج شيئاً ملموساً، وإسلاميو «الخط الرئيس» ازدادت شعبيتهم، وازدادوا إصراراً على اختراق المجال العام في أكثر البلدان العربية والإسلامية بالوسائل المتاحة وغير العنيفة. بيد ان التغييرات الكثيرة في الإدارتين السياسية والثقافية لدى الاميركيين خلال العام 2006 لم تأت نتيجة الاقتناع بفشل حملات الديبلوماسية العامة (لتحبيب العرب والمسلمين بالولايات المتحدة)، ولا نتيجة الاقتناع بديموقراطية الإسلاميين (المعتدلين)، بل نتيجة انكسار الحربة الأميركية في العراق، والكَلَل والحيرة في أفغانستان وباكستان. لذلك، ومن ضمن التفكير بتصحيح التعامل مع الدول والمجتمعات، طُرح السؤال من جديد عن إمكان اجتراح اعتراف متبادل مع إسلاميي التيار الرئيس، وفريقهم الأساس في بلدان الشرق الأوسط، «الإخوان المسلمون، ومتفرعاتهم ورفقائهم.

يبدو التفكير الجديد في شأن الإخوان في دراستين نزلتا الى «السوق» اخيراً، أولاهما دراسة عمرو حمزاوي ومارينا اوتاواي وناثان براون، الصادرة عن مؤسسة كارنيغي للسلام. وثانيتهما دراسة روبرت ليكن وستيفن بروك في مجلة «فورين افيرز» الصادرة قبل ايام (آذار/ مارس - نيسان/ ابريل 2007). أما باحثا مجلة «الشؤون الخارجية» فيقولان انهما قضيا عام 2006 في نقاشات مستفيضة مع شبان وكهول من «الإخوان» في بلدان كثيرة عربية وأجنبية، وفي شأن مسائل مثل الديموقراطية والجهاد، وإسرائيل والعراق، والولايات المتحدة، وأي مجتمع يريد الإخوان ان يُنشئوا؟ وتوصلا في النهاية الى ان هؤلاء لا يمارسون العنف، وهم مفيدون في صرف الشبان عن المتطرفين، ويرغبون في التعاون مع الغرب، كما يرغبون بالدخول في العملية الديموقراطية في بلدانهم من خلال الانتخابات، ولذلك فهم يستحقون ان تخوض الإدارة الأميركية حديثاً استراتيجياً معهم. في حين أراد باحثو مؤسسة كارنيغي ان يوضّح الإخوان مواقفهم من ست مسائل: تطبيق الشريعة والعنف، والتعددية السياسية، والحريات الفكرية، والأقليات، وحقوق النساء.

والواقع ان الظاهرة الإحيائية الإسلامية ما تزال قوية وفاعلة، ولا تتجه الى الانحسار، والبارزُ في تيارها الرئيس ثلاثة أمور: مغادرة العنف، والانتشار ضمن فئات شعبية واسعة، والاتجاه المتعمد خلال العقدين الأخيرين للدخول في الدولة والنظام، أو الطلب القوي للمشاركة فيهما، بعد ان استتب لها الأمر في مؤسسات وجهات كثيرة في المجتمع المدني، وبعد ان سيطرت على «جدول أعمال» المتدينين، وصار لها نفوذ ثقافي بارز. ولا شك ان التساؤلات التي يطرحها الأميركيون والأوروبيون في شأن الظاهرة الاسلامية مهمة لهم ولنا وللعالم. بيد ان أولوياتهم غير أولوياتنا. فأكثر ما يهم الغربيين (إذا صح هذا المفرد!) مسألتان: العنف، والموقف الحضاري والثقافي للإسلاميين. وحركاتُ الإسلام السياسي هذه لا تمارس العنف في الخارج، أما في الداخل فإن الأعمال شبه العنيفة التي تقوم بها شريحة صغيرة منهم، يمكن تلافيها عندما تتحسن العلاقة بينهم وبين الدولة والنظام. فتبقى المسألة الأخرى المتعلقة بالموقف الثقافي والحضاري لحركات الإحياء الإسلامي، وهو موقف ليس من السهل تجاوُزُه على رغم البراغماتية المشهودة لهم. إذ ان تلك الحركات هي حركات هوية، والرمزيات والشعائريات شديدة الأهمية فيها ولها. وهي لا تتقبل الغرب ومدنيته، أو أن تلاؤمها مع الحياة الحديثة عملية معقّدة محوطة بالكثير من الانتقائيات، وأنها تدخل في باب الضرورة و «الضرورة تقدّر بقدرها».

ولا شك في ان مسائل مثل التعددية السياسية والحريات الفردية، والأقليات، والمرأة، أمور أساسية لدولنا ومجتمعاتنا. لكن لا يمكن الزعم ان الإسلاميين هم الذين يحولون دونها او يقفون عقبة في طريقها. فهناك من جهة وعي محافظ سائد يتجاوز الإسلاميين، وهناك من جهة ثانية التجربة السياسية العربية خلال العقود الأربعة أو الخمسة الماضية، والتي وضعت الجميع في مواضع ومواطن، لا تشكّل كلها أي نموذج نستطيع ان نطلب من الإسلاميين احتذاءه.

إنما الأمر الأبرز في المرحلة الجديدة التي نحن على أعتابها مع الإسلاميين هو أمرُ الدولة المدنية التي لا يبقى لها نصاب مع مقولة تطبيق الشريعة. وهذه المقولة هي التي أعطت الإسلام السياسي اسمه هذا، أي إقامة الدولة الإسلامية التي تطبق الشريعة. فقد كان الفقهاء التقليديون القدامى يرون ان المرجعية إنما هي للأمة وإجماعها واشتراعها، بينما ساد في الإحياء الإسلامي في العقود الخمسة الماضية، وبعد ظهور مقولة الحاكمية، أن المرجعية للشريعة، وهذا ليس بمعنى مراعاتها أو مراعاة أحكامها عند اشتراع القوانين والأنظمة، بل بمعنى انها نظام شامل لا يخرج من تحت مظلته شيء في شتى الظروف والأحوال. وبهذا المعنى لا تكون الشريعة مطبّقة الآن، فتصبح هوية المجتمع والدولة معلّقة إلى ان يأتي الإسلاميون للسلطة أو يشاركوا فيها، فنحظى بالاعتراف ان هويتنا ليست متغربة أو مزوّرة. والذي يترتب على ذلك عدم إمكان الإفادة من مبدأ المواطنة، والذي إذا جرى المساس به، سقط الطابع المدني للدولة. والواقع ان ما يقوله بعض المفكرين الإسلاميين ان معنى مدنية الدولة في الإسلام عدم عصمة حاكمها، ليس كافياً وليس صحيحاً. فالحاكم غير المعصوم، وكي يكون شرعياً في نظر الإسلاميين عليه ان يطبّق الشريعة المعصومة!

ان هذا ليس كلاماً إنشائياً، بل هو يتعلق بتحويل الإسلام أو الشريعة الى قانون وليس الى نهج حياة. وهذا أمر جديد لا علاقة له بتجربتنا القديمة، ولا بالتجارب الحديثة والمعاصرة. فالعلمانيون الأوروبيون فصلوا الدين عن الدولة، كي لا تفتئت الكنيسة عليها. والأميركيون فصلوا الدين عن الدولة، كي لا تفتئت الدولة على الدين. اما البرنامج الذي يضعه سائر الإسلاميين لتصحيح أو تغيير تجربتنا السياسية فهو برنامج لصراع مستمر ومهلك بين الدين والدولة، ما عرفه تاريخنا القديم، كما سبق القول. وقد كانت الدولة في تلك الأزمنة هي التي تحرس الدين ولا تتدخل فيه، في حين تسوس الدنيا، أي تقوم بإدارة الشأن العام وتطويره.

ما اختلف الأميركيون مع الإسلاميين كي يصالحوهم، بل هجموا علينا جميعاً وطوال خمس سنوات أو أكثر. فإذا رأوا الآن انه من المصلحة التواصل معهم فهذا شأنهم، أما نحن فلنا مصلحة كبرى في المصالحة والتشارك للخروج من هذا الصراع الطويل والمهلك بين ديننا (الذي يوشك ان يستولي ولاة أمر الإسلام السياسي عليه) ودولنا التي تتعثر وتسقط هنا وهناك، وبين اسباب ضعفها اضطرارها لمكافحة هذا الاستيلاء الوشيك. ولا حول ولا قوة إلا بالله.

عن «الحياة» اللندنية 20 مارس 2007

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى