أحمد قاسم ظاهرة فنية نادرة لا تتكرر

> «الأيام» فريد بركات:

> في مبدأ الأمر قررت المشاركة في هذه الاحتفائية المكرسة لإحياء ذكرى الموسيقار الخالد أحمد بن أحمد قاسم، بحديث مرتجل غير مكتوب. فهو يريحني من ناحية لأنه لا يقيدني بشيء بعينه، كتخطيط مسبق أو إطار مرجعي للموضوع. وهو يريحني أيضاً، لأنه لا يكلفني أي عناء يذكر، مثل ذلك العناء الذي يفرض على صاحبه تحديد المحاور والمراجع والتقيد بأمور كثيرة ليس أقلها اللغة. إلا أنني سرعان ما صرفت النظر عن هذه الفكرة، لأنني أدركت في اللحظة عينها أن تلك الراحة المفترضة والخلاص من القيود المختلفة، سوف يوقعني في ما هو أشد وأقسى، في هذا الصدد، في مثل هذه المناسبات التأبينية الخاصة، أو التي نتذكر فيها عزيزاً علينا، أو علماً من أعلام الفكر والثقافة أو النضال الوطني، أو الخلق الإبداعي الفني في جنس من أجناس الآداب والفنون. ذلكم هو محذور الوقت أو الزمن، الذي لا يزال أمره عصياً على علماء الفيزياء وعلماء الكلام وعلماء الفسلفة وعلماء الانتروبولوجيا الاجتماعية والتاريخية، حتى يومنا هذا. إنها معضلة الإسهاب، أو التحكم في الوقت من منظور مختلف. فالوقت الذي يبدو أمره بسيطاً، سلساً من زاوية ما، لا يكون كذلك من منظور متفحص، مدقق، لعل أسهل ما فيه، وأبسط نقطة انطلاق منه هو الإسهاب الذي يجعلنا نستهلكه ولا نتحكم فيه- كقاعدة عامة تصدق على كل جزئياته المكونة لمادته الأساس - صعوداً ونزولاً، وحتى مراوحة في المكان.

ودون إسهاب أو إطالة، واختصاراً للوقت، أقول، اخترت الكتابة هنا بديلاً للارتجال، لتحقيق هدفين رئيسين هما التركيز والإيجاز في ما نحن بصدده. فالارتجال يطلق لصاحبه العنان حتى لا يعرف للوقت مبتدأ أو منتهى.

ثم لا ننسى أن لدينا مشاركين آخرين، هم أنتم في نهاية المطاف. سوف تتواجدون وتتداخلون وتناقشون وتطربون بسماع أعذب الألحان والأنغام والأداء الجميل وأرق الكلام لشعراء كبار ذهبوا وخلفوا وراءهم ثروة عظيمة من الشعر الغنائي العامي والفصيح، لا تنضب بل تتجدد عند سماعها أو قراءتها أو استعادتها واسترجاعها، كالأدباء الشعراء العظماء الكبار: علي محمد لقمان والدكتور محمد عبده غانم ولطفي جعفر أمان ومحمد سعيد جرادة وإدريس حنبلة وغيرهم من الشعراء الكبار المعروفين من الأموات والأحياء الذين أثروا حياتنا الوجدانية بإبداعاتهم المتميزة أمس واليوم وغداً حتماً سيثرونها بأشعارهم الغنائية العامية والفصيحة، في دورة زمنية متواصلة لا تنتهي.

فقيدنا العظيم الموسيقار أحمد ابن أحمد قاسم الذي رضع موسيقى- لا لبناً - من ثدي أمه، ولد لأسرة فقيرة بسيطة عادية في 11 مارس 1938، لم يمنع فقرها وبساطتها هذه الموهبة الفنية النادرة التي لا تتكرر، من الوجود والظهور، فشق طريقه بصعوبة وسط شظف العيش وحياة البؤس، بصورة تثير الشفقة والإعجاب معاً. فأنهى دراسته الأولى في مدرسة بازرعة المعروفة في كريتر، التي تخرج فيها أيضاً فنانون وأدباء وسياسيون أصبحوا فيما بعد أسماء بارزة يشار إليها بالبنان، وأسس فيها مبكراً فرقة موسيقية ضمت في عضويتها أسماء أصبحت فيما بعد، من الأسماء البارزة في عالم الطرب والموسيقى الشرقية، بلونها العدني الذي تكوّن بالتدرج حتى أضحى لوناً معروفاً في عالم الغناء والطرب اليمني والعربي. ثم دلف إلى عالم الغناء والطرب والتلحين ، وهو لما يتجاوز الثانية عشرة من عمره الزمني. فكان لحنه الأول «تهجر وتنساني» وتواصلت ألحانه وأغنياته، ثم التقى الموسيقار المصري، السوري الأصل، في عدن في منتصف الخمسينات، «فريد الأطرش» الذي ذهل لقدراته الموسيقية الكبيرة وهو لا يزال في مطلع العشرينات من عمره الزمني والفني، فنصحه بضرورة التخصص ودراسة الموسيقى دراسة علمية صحيحة، في المعهد العالي للموسيقى الشرقية في القاهرة. فغادر أحمد قاسم إلى القاهرة لدراسة الموسيقى، وأنهى دراسته هناك، وكان الأول بتفوق على دفعته من دارسي الموسيقى من الطلبة المصريين والطلبة العرب، وغير العرب من طلبة المعهد العالي للموسيقى في شبرا. حتى أن تفوقه تجلى بصورة أثارت الإعجاب الشديد بهذا الطالب العدني - اليمني، الذي قدم في مادة العزف على العود قطعة موسيقية من تأليفه وعزفه هو، بدلاً من المقطوعة الموسيقية المقررة على الدارسين من طلبة المعهد العالي للموسيقى آنذاك. وكان هذا حدثاً نادراً وفريداً من نوعه ، إذ لم يحدث أن قدم طالب من قبل، منذ تأسيس المعهد العالي للموسيقى في مصر، وحتى يومنا هذا، قطعة موسيقية من تأليفه في الاختبار النهائي للتخرج، بدلاً من المقطوعة الموسيقية المقررة عليه، عدا الموسيقار اليمني الكبير أحمد بن أحمد قاسم.

سجل أحمد قاسم عدداً من أغنياته العاطفية والوطنية في الإذاعات المصرية المختلفة، مثل إذاعة صوت العرب وإذاعة القاهرة والتلفزيون المصري في ماسبيرو في القاهرة، وشارك في احتفالات «أضواء المدينة» الذي يشارك في إحيائه سنوياً، في السابق، عدد من أبرز الفنانين المصريين المعروفين. وقد قدمت احتفالات «أضواء المدينة» خدمة كبيرة لبعض الوجوه الجديدة من الفنانين العرب والمصريين الذين يشاركون في تلك الاحتفالات لأول مرة. فيصبحون بعد ذلك من الأسماء الفنية المعروفة في محيط الطرب والغناء في مصر والعالم العربي، فمصر كانت ولا تزال هي جواز المرور إلى عالم الشهرة في مصر وفي غيرها من البلدان في العالم العربي.

وبعد عودة أحمد قاسم إلى عدن، أنجز عدداً ملحوظاً من الأعمال والنشاطات الفنية النوعية لعل أبرزها حفلات «مسرح البادري» الطربية السنوية (مرتين في السنة)، التنافسية، التي كان قطبها على الضفة الأخرى الفنان اليمني الكبير محمد مرشد ناجي. وقد ساعدت تلك الحفلات الفنية التنافسية بين قطبي الغناء والطرب العدني - اليمني، أحمد ابن أحمد قاسم ومحمد مرشد ناجي، على تطوير فن الغناء والطرب اليمني وامتلاك أدواته الفنية بالتدريج، وامتلاك ناصيته بالعلم والخبرة والتجربة بطرق وأساليب شتى، ونشر الوعي الفني، والتذوق الفني في صفوف الناس، فكانوا هم المستفيدون الأوائل من إذكاء روح المنافسة الفنية بين القطبين البارزين أحمد بن أحمد قاسم ومحمد مرشد ناجي. وقد تمكنت بعض الأسماء الأخرى من الظهور وإثبات الوجود في تلك الفترة (نهاية الخمسينات والنصف الأول من الستينات)، إلى جانب أحمد قاسم والمرشدي. مثل الفنان اليمني الكبير محمد سعد عبدالله ومحمد عبده زيدي وغيرهما من الفنانين اليمنيين الكبار. أما سالم أحمد بامدهف، المطرب اليمني الكبير، الذي أثر في هؤلاء جميعاً تأثيراً فنياً ملحوظاً، فقد نأى بنفسه عن تلك المنافسات الفنية السنوية المعروفة، فكان كالمراقب الذي يرصد كل ما يجري أمامه دون أن تنزلق قدمه في سوح المعارك الفنية المحتدمة من حوله. وفي الحقيقة فإنه رغم القدرات الفنية المعترف بها لكل هذه القامات الفنية اليمنية، إلا أن التجربة الواقعية أثبتت أن أحمد قاسم ومحمد مرشد ناجي هما القطبان الفنيان الوحيدان القادران على إقامة الحفلات الفنية الدورية الجماهيرية والسيطرة على الجماهير - التي تعشق فنهما العاطفي والوطن الرفيع، حد التقديس الوجداني- في آن واحد.

درّس أحمد قاسم الموسيقى في معهد تدريب المعلمين، كما فتح مدرسة لتعليم الموسيقى في منزله الكائن في الخساف في الستينات من القرن الماضي. ثم ذهب إلى القاهرة وفي ذهنه تصوير فلم لأغنية طويلة كان يخطط لتصويرها وإنتاجها. ولكن هذه الأغنية الطويلة، تحولت بقدرة قادر إلى أول فلم سينمائي روائي ينتجه الفنان أحمد بن أحمد قاسم، ويساهم في إنتاجه إلى جانبه صديقه المرحوم أنور حامد مهدي، بعد أن نصح مخرج الفلم عادل صادق أحمد قاسم بصرف النظر عن تصوير الأغنية الطويلة، والانتقال إلى مرحلة إنتاج فلم سينمائي لن يكلفه الكثير من المال، وسوف يحشد له عدداً من الأسماء والوجوه المعروفة من الممثلين المصريين البارزين بأجور زهيدة لا تذكر. فكان له ذلك. وشارك في فلم «حبي في القاهرة» عدد من الممثلين المصريين المعروفين، لعل أبرزهم زيزي البدراوي ومحمود المليجي وتوفيق الدقن وعبدالمنعم إبراهيم والممثل الكويتي نجم عبدالكريم الذي هجر التمثيل والمسرح وأصبح كاتباً يهتم بالسياسة والتاريخ والتراث الشعبي (الفولكلور).والغريب في الأمر أن منتديات غير رسمية، كمنتدى الطيب، تحرص على إقامة الفعاليات والنشاطات الفنية والفكرية والثقافية والسياسية لفنانين وقامات فكرية وثقافية وأدبية مرموقة، تتجاهلها مؤسسات الدولة الثقافية والإعلامية، في حين يحرص التلفزيون المصري على إحياء ذكرى المطرب اليمني الكبير أحمد بن أحمد قاسم سنوياً، فيبث في يوم وفاته كل عام فلم «حي في القاهرة» الذي لا يبثه الإعلام اليمني الرسمي، الأولى ببثه من غيره من المؤسسات الإعلامية العربية الرسمية، غير اليمنية.

قدم أحمد قاسم خلال عقدي الخمسينات والستينات بصفة خاصة، والسبعينات والثمانينات بصفة عامة، أجمل ما لديه من ألحان وأغنيات - لعدد من الشعراء الكبار - لن يجود الزمان بمثلها. وتكاد تكون جميع أغنيات وألحان الموسيقار أحمد بن أحمد قاسم، بمستوى فني رفيع لا تنفر منه الأذن الحساسه الموسيقية. أما الأذن النشاز غير الموسيقية فلن تطرب لأحمد قاسم، وغير أحمد قاسم من المطربين العظماء الكبار أمثال محمد عبدالوهاب وصالح عبدالحي وسيد درويش وزكريا أحمد ونجاة علي وأم كلثوم ومحمد عبدالمطلب وعبدالحليم حافظ ومحرم فؤاد وفيروز ووديع الصافي ونجاة الصغيرة وفتحية الصغيرة وسالم بامدهف والزيدي ومحمد سعد عبدالله وأيوب طارش ومحمد محسن عطروش وأبوبكر سالم بلفقيه وعبدالرب إدريس، وغيرهم من الفنانين والمطربين العرب واليمنيين الذين أطربونا طوال تلك السنوات التي ذهبت بحلوها ومرها، وسيظلون يطربوننا طوال السنوات القادمة، بمرها وحلوها أيضاً. رغم أنني شخصياً أتعامل مع مقولة ناظم حكمت الشعرية: «إن أيامنا الجميلة هي تلك التي ذهبت». ولأن الحديث عن أغنيات أحمد قاسم العاطفية والوطنية، التي تتجاوز الخمسمئة لحن، تحتاج إلى كتاب على أقل تقدير، لنتمكن من تناولها تناولاً فنياً خاصاً، لا يسمح به المكان والزمان الحاليين، فأنني أترك هذه المهمة، لي ولغيري من الباحثين والكتاب والمهتمين بالدراسات الأدبية والفنون الأخرى إلى أجل آخر، يسمح بإنجاز مثل هذه البحوث والدراسات الأدبية والفنية.

وأكتفى هنا بذكر بعض كلمات الأغنيات التي لحنها وغناها موسيقار اليمن الكبير أحمد بن أحمد قاسم من اشعاري العامية والفصيحة،(التي أحفظ كلماتها فقط)، أما ما عداها من أشعار أخرى، لا أحفظ كلماتها حالياً، فيمكن العودة إلى تسجيلاتها المحفوظة في مكتبتي الإذاعة والتلفزيون في عدن.ومعذرة للإطالة، فقد حاولت هنا الإيجاز قدر المستطاع، ولكن لأن الموضوع، في جوانب معينة منه، يفرض عكس ذلك، وجدت نفسي أنساق مع تدفقه في حدود، فأعود سريعاً إلى محاولة الإمساك بتلابيبه، من غير خنق، حتى لا أفقد السيطرة عليه. فمعذرة مرة أخرى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

مداخلة ألقيت في منتدى الطيب

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى