> «الأيام» سالم العبد:

سالم العبد
سالم العبد
إن قوة ذلك الشيخ التي كانت تشع من عينيه الصغيرتين المدورتين النفاذتين، لم تكن تنبعث من هيئته القميئة النحيلة، وإنما من روحه المتمردة الجامحة الفياضة بالأنفة.. المتطلعة أبداً إلى ذرى الشموخ الإنساني الصعبة مما يبهظ جسده الصغير ويجعله يئن دائماً تحت ثقل هذه الفورات الروحية الجبارة.. ولعله كان سادراً في ارتقائه الروحي العنيد، غير عابئ بسنواته السبعين، حينما عزم الرحيل وحيداً إلى قريته الرابضة فوق مرتفعات وادي «بدش» الشاهقة، فأخذ يهتز خفيفاً مثل الرمح وهو يخطو بقدميه الحافيتين بوابة الوادي الكبير «سلبات» مثقلاً ببندقيته وصرة البن والسكر و«ختلة» زيت السمسم التي لا يفارقها أبداً.. وعندما تجاوز التل «الصغير القارة السوداء» وأخذ ينحرف متيامناً عن طريق قوافل الجمال الطويلة في الوادي الفسيح، كانت ظلال العتمة الموحشة تنتشر بخفة ملتهمة معالم الأشياء بضراوة عنيدة. أحس بضربة باردة سريعة، تصدم ساقة المعروقة.. ولأنه يعلم أن التوقعات السيئة يمكن أن تحصل له، فقد شعر للوهلة الأولى بأنه بوغت بطريقة عابثة ومهينة.. ثم ما لبث أن أحس بشيء بارد، موحش، أشبه بهذه الخلوة الصامتة، يتفجر في أعماقه، وشملته رعشة قوية وخوف قاتم كئيب.

وفي تلك الثواني السريعة كانت ساقه تتثاقل عن المشي، ويغشاها فتور كريه، فتأكد له بالقطع أن ثعباناً ضارياً لدغه في ساقه المعروقة الصلبة، ولكنه وبرغم يقينه القاطع بدا أشبه ما يكون برجل شلّته الدهشة والذهول!!

لم يكن الخوف وحده ما يجعله يبدو بهذه الهشاشة المزعجة.. ربما حجم المفاجأة ووحشة هذه الخلوة المهيمنة ووحدته المكتملة المرعبة.. وكعادته لم يكن ليسمح أن تأخذه مثل هذه الهواجس المحبطة فيغرق في نهاية لم يخلق لمثلها!! ولم يكن يسمح لمثل هذه المشاعر الرقيقة بأن تنال من رجولته الساحقة، وتهوي بروحه المكابرة من ذراها الشاهقة!!

استعاد جماع إرادته وجلس على قارعة الطريق يلهث بأنفاس متسارعة. والعرق البارد يغطي جبينه العالي، انتزع بدون تردد الشفرة الهندية المرهفة وهوى بذلقها البارد على عروقه النافرة الملتوية على جنبات ساقه الثقيل.. ولم يكن حتى سمع في عمق الصمت تمزق شرايينه المتصلبة باحتقان الدم الممزوج بالسم الزعاف.. ثم سمع صوت الشفرة الملتمعة وهي تغوص في نتف اللحم القاسي وتصطدم بعظمة الساق الملدوغة فيما تصاعدت رائحة الدم الحار تملأ أنفه الدقيق، متدفقاً بانسياب رتيب، موحش وقاتم.. اهتزت شفتاه المتوترتان الجافتان، وافترتا عن ابتسامة شاحبة بائسة ما لبثت أن تلاشت، وتجهم وجهه المنحوت بخسفيه الغائرتين تحت عينيه المدورتين النفاذتين.. وانكب من فوره ليشطر جزءاً من «سباعيته» المكرمشة، وأحكم الربط أعلى ساقه مقدراً أنه ارتفع مقدار أربع أصابع أعلى موضع اللدغة النافذة، أطلق تنهيده حارة بعد إنجاز هذه المهمة الصعبة.. توقف عن الحركة تماماً مبحلقاً في العتمة الكثيفة، شاعراً بقواه تتسرب من جسده الهرم مع انسياب الدم الساخن الثقيل ذي الرائحة الصدئة الحارة، اضطجع على الأرض القاسية بوهن بالغ، وأرسل عينيه الصغيرتين ثانية لتخترقا بيأس وإصرار مريرين حجب الظلام الكثيف، موقناً أنه لا يملك شيئاً سوى الصمود والانتظار تحت وطـأة الألم الساحق الذي يسري في عروقه المتيبسة، مثل النار الموقدة.

وحين أحس بعد برهة من الوقت بانحسار الألم القوي.. وتسلل الخدر الثقيل يتمدد من أسفل ساقيه صاعداً عبر صدره إلى خلايا مخه المتهادي في فورة الظلام، انتفض بجماع ما تبقى له من قوة زاحفاً نحو بندقيته الممددة في برود مميت حيث لدغته الحية اللعينة... دفق غريب من القوة العاتية نقلته إلى حالة من الصحو والصفاء النادرين.. وجلس بهدوء ليعمر البندقية المطواعة.. وقدح في فتيل الإشعال ليهتز الفضاء البارد، الغارق في صمته ومواته الراعش بدوي هائل، زاعق رددت صداه الجبال والصبار وبطون الأودية المستكينة لنعاس عميق.