الشاعر الغنائي عبدالقادر فدعق .. معاناة البحث الإبداعي عن نص غنائي جديد

> «الأيام» مختار مقطري:

> غير مرة كتبت، وغير مرة تحدثت، عن تدني مستوى الأغنية اليمنية في السنوات العشر الأخيرة على الأقل، محاولاً تفنيد بعض أسباب هذا التدني والتراجع، فمعظم ما يبث أو يوثق أو يسـوّق أغـان هزيلة فارغة من القيمة الفنية القيّمة في النص واللحن والأداء، ولأن النص أكثر هذه العناصر هزالاً وشحوباً وجدباً في الفكرة الجديدة والمعاني المبتكرة، فمن الطبيعي ألا نستمع لألحان جديدة تحمل صفة التجديد والابتكار، وصارت أغانينا اليوم ألحاناً مرتجلة ومملولة أو تقليدية جاهزة من قبل كتابة النص، لمعان قديمة ومستهلكة عن الصد والهجر والرضا والخصام، على أنها حالات عاطفية باقية ما بقي الحب والشعر، ولكن يتبقى أهمية التعبير عنها تعبيراً يختلف عما نحفطه عن ظهر قلب في أفكار شعرية جديدة، تمنح الشاعر مجالاً لتوليد معانٍ مبتكرة، هذا مع غـياب للأغاني الوطنية والموضوعية الجميلة التي افتقدناها كثيراً.

والشاعر الغنائي عبدالقادر فدعق واحد من الشعراء الموهوبين المتميزين موهبة وعطاء جميلاً، وقد أسعدني أن أجد في نصوصه ما أبحث عنه من أفكار جديدة ومعان مبتكرة تفيض عواطف ومشاعراً مرهفة صادقة، تلوّن نصوصه بظلال من الجمال والألق، وومضات من الفن والإبداع الجميل، ما يجعل شعره عذباً في القراءة، عذباً إذا تحول إلى أغنية جميلة، وقراءة أشمل في نصوصه يكتبها أقدر مني على النقـد أقدر على جلاء ذلك من المقاطع الشعرية المجتزأة في قراءتي المختصرة هذه.

ولأني لست مع الالتزام الصارم بعروض الفراهيدي في النص الغنائي، لأنه بحسب رأيي اللبنة الأولى لصناعة أغنية، فقد أعجبني في نص الشاعر فدعق موسيقاه المرسلة من صدق العاطفة ودفء الشعور وعمق المعاني والملاءمة بينها و بين المفردات.. موسيقى هادئة ومجلوة بانسياق متناغم ومؤثر، موسيقي لا تتدفق هادرة، ولكنها تهمس، وكل ما قرأته حتى الآن من نصوص الشاعر فدعق غنائي عاطفي، إلا أنها على همسها تصدح حينا وتبوح حينا وتخفق حينا آخر، يقصر نفسها حينا، وحينا يطول ويتموج حينا آخر، ولكنها لا تضج ولا تثور، رغم تباين حالات العاطفة واختلاف الشعور في النص الواحد وبين نصوص عدة، رضا وعتاباً وغضباً وتوسلَ شاعر عاشق، يقول الشاعر في نص (لو كنت أقدر) وهو في حالة يأس حزين بين لوعة حب كبير ورغبة في نسيان مستحيل: «لو كنت أقدر.

بجبر فؤادي.. ينساك في ثواني/ ويمحي وصوفك.. من اوراقي الحزينة.. وبأمر كياني/ تنام الليالي.. اللي فيها منامي.. لأجلك جفاني/ ومن داخل حياتي.. بمحي حياتك.. وأيام هواني».

وفي نص بعنوان (تعزية) يعلن الشاعر انتهاء قصة حب جميلة، ولأنه لم يجد من يعزيه بهذه النهاية الأليمة ولكي يواسي روحه الحزينة وقلبه المفجوع، يقدم تعزية حارة للحبيبة رغم كونها الطرف المتسبب بالفراق والقطيعة حين عادت إليه نادمة مستعطفة، ورغم محاولة الشاعر إخفاء حزنه في سخرية الموقف، إلا أن حزنه أكثر وضوحاً في النص من رغبته في تأنيب الحبيبة والتشفي بندمها على الحب الذي تنكرت له يوماً ما.. يقول الشاعر:

«اسمح لي أعزيك.. واعزي فؤادي.. بموت المودة/الحب تلاشى.. من قلبي وقلبك.. في عز مهده/من قبل ينضج.. أصبح شهيدك.. ماشي يرده/ وايش عاد يفيدك.. تذرف دموعك/وتطلب وصالي.. وتطلب رجوعك/ روّح هوانا.. بشوكه وورده.. إيش بايرده».

غير أن في قراءة الشاعر القادر فدعق لنصوصه موسيقى أخرى لا تقل جمالاً وعذوبة، فتحار أيهما أعذب هي أم الموسيقى في النص ذاته، ولن يتأتي الإصغاء إلى الأولى إلا في أمسية جميلة في فرع اتحاد الأدباء بعدن أو في أحد المنتديات والجمعيات الأهلية.

أما فكرة النص عند الشاعر عبدالقادر فدعق فجديد في معظمها، وهي فكرة واحدة في كل نص، فلا يزحم النص بأكثر من فكرة واحدة، مما يضمن للنص جانباً من وحدة الموضوع، إلا أن الأفكار في نصوصه متنوعة وغير مقلدة أو تقليدية إن لم أقل غير مسبوقة في كثير منها، وأوشك على الجزم أن أكثر ما يهتم به الشاعر ويشغله كثيراً البحث عن فكرة جديدة ليضمن أن يبتكر منها معاني جديدة ومدهشة، ولأن فكرة النص فكرة واحدة اختار الشاعر لكل نص عنواناً من كلمة واحدة: (تهنئة - تعزية- المراسي- احتياج...إلخ) .

وما يدل على أن للشاعر فدعق خيالا خصبا وموهبة شعرية فذة ومقدرة على الابتكار والتنوع والتجديد في مواضيع النص الغنائي، وهذا ما تحتاجه الأغنية اليمنية اليوم، أن شاعرنا لا يبحث عن الفكرة الجديدة فقط ولكن عن التطرف في الفكرة ايضاً لتأتي معانيه أكثر إدهاشاً، فالاستياء مثلاً غضب هين، أو درجة أعلى من العتاب، وحالة من الخصام محدودة الأثر وسريعة الزوال، باعتذار جميل وصفح أجمل، لكن شاعرنا حين اختار موضوع الاستياء ليجعله فكرة نص غنائي، ولا أحسب أن شاعراً فعل ذلك من قبل، لم يكتف بمجرد الاستياء المألوف لدى المتلقي، لكنه جعل نفسه في النص الشاعر العاشق الذي لا يقدر على تحمل مجرد الاستياء من الحبيبة، ويشعر به هماً ثقيلاً، ويجد نفسه في عزلة نفسية موحشة، وينعدم إحساسه بالزمن، فنهاره اليوم شبيه بنهاره أمس.. يقول الشاعر في نص (استياء):

«تستاء مني.. يستاء عمري.. مني ونفسي/ تجافيني لأجلك.. والكل يصبح/ ضدي وشمسي/ تفارق سماها.. ويصير نهاري.. شبيهاً بأمسي».

وباستياء الحبيبة تعطلت كل حواس الشاعر العاشق، وأيقن أنه دونها ضعيف ومنهار ومتزعزع، فيسارع ليعتذر حاملاً رأسه في كفه في سبيل أن تغفر له إساءته وتسامحه، يقول الشاعر:

«يا حرقة فؤادي.. من نار استيائك.. ضاعت حواسي/ قد بان ضعفي.. وتهاوت صروحي.. وانهار ساسي/ عذراً حبيبي.. ولك اعتذاري.. وع كفي راسي».

وكامل الشناوي يرفض الجهر بالشكوى من تألمه بسبب خيانة الحبيبة، ويضطر لكتمان ألمه وشعوره بالقهر ليطهر ذاته من سيطرة فكرة الانتقام ليبدو قوياً متماسكاً، وكأن خيانتها لم تؤثر فيه كثيراً، يقول كامل الشناوي:

«ماذا أقول لأدمع سفحتها أشواقي إليك/ ماذا أقول لأضلع مزقتها خوفاً عليك/ أأقول خانت؟ أأقول هانت؟/أأقولها؟ لو قلتها أشفي غليلي/ ياويلتي.. لا لن أقول أنا فقولي».

ويتناول شاعرنا هذه الفكرة تناولاً لا يبدو مختلفاً، إلا أنه نابع من رغبته- كما هو الحال عند كامل الشناوي- في تطهير ذاته من فكرة الانتقام لكي يبدو قوياً ومتماسكاً، فيلجأ إلى سخرية لاذعة ويرسل للحبيبة المخادعة يهنئها على مقدرتها الفذة في خداع رجل مجرب مثله خبير بالحياة وبقلوب الصبايا وأهواء النساء، يقول الشاعر في نص بعنوان (تهنئة):

«بكل صراحة أهنيك.. من كل قلبي أهنيك/ لأن الوحيد انت.. اللي قدر يخدعني.. اللي كان فنان.. في كل ألاعيبه.. في كل أحاسيسه/ وبأكاذيبه خدعني».

وفي نص آخر بعنوان (علمني) يعود الشاعر للحبيبة الظالمة راجياً منها أن تعلمه القسوة ليتمكن من القسوة عليها، فالقسوة عندها فن له أصول يمكن تعلمها، يقول الشاعر: «علمني على إيدك.. كيف اتعلم أصول القساوة.. وأهديها منك إليك/علمني مع شراب التوت.. كيف أمزج آلامك وأسقيك».

ويظن الشاعر المكلوم بحبه أنه بتعلمه القسوة يتخلص من ضعفه أمامها، وينجح في ظلمها انتقاماً منها لظلمها إياه، فيقول: «علمني كيف أخفي .. أمامك كل ضعفي.. وأعلن تحديك/ وعلى ظلمك لقلبي .. أظلم فؤادك وأشقيك».

وهو يريد أن يتعلم أكثر من أن يقسو عليها، يريد أن يتعلم كيف يتنكر لكل وفاء ولكل من يدعى الوفاء، فالوفاء بعد خداعها معدوم، يقول:

«علمني فنون الجفا.. وكيف أتنكر لاهل الوفا/أريد اتعلم كيف أقدر أجافيك.. ودي اتعلم فنون النقش.. عشان أنقش بجوفي.. في دجى الليالي مآسيك».

لكن.. ولأنه شاعر وعاشق، نجده في ختام النص يرفض أن يمتلئ قلبه بالقسوة والبغض والرغبة في الانتقام، لأنه بذلك يخدع روحه الشاعرة الحالمة، المحبة للخير والجمال، وينحدر إلى مستوى مقيت كالذي وصلت إليه الحبيبة بقسـوتها وتنكرها للحب والوفاء، فيـربأ بنفسه من الانحدار إلى مستـواها النفـسي غـير السـوي، فيخـتم النـص (علمـني) بهذين البيـتين الجميلـين:

«يا ليت اتعلم كيف احرق دمعة مآقيك/وامنع نفسي بنفسي تساويك».

لكن الشاعر العاشق ومن أجل الحبيبة المحبة والمخلصة للحب والحافظة للعهد، مستعد لمواجهة كل الصعاب وتحدي كل العراقيل للوصول إليها، يقول في نص (المراسي) :

ضاعت مراسي ** مركب هيامي ** وتاهت مراسيك

قد بح صوتي ** المشتاق صوتك ** وأنا أناديك

من مينا لمينا ** ومجدا في حنيني ** يقطع شواطيك

مهما بحورك ** وامواجك شديدة ** وبعدت مراسيك

ع رمش عيني ** ع نار شوقي ** لا بد ما جيك

ما هم المسافة ** مهما المسافة ** تِطوَل أنا جيك

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى