«الأنف» يعشق قبل العين أحياناً...

> ريم عبدالغني:

>
يقال إنك إذا حفرت قليلاً على شاطئ البحر في ميناء «قنا» جنوب اليمن، ستجد أن الرمال مازالت تحمل حتى الآن بقايا رائحة اللبان الذي طالما كانت «قنا» مركزاً لتصديره إلى العالم، و الذي ظلت حضرموت - التي ازدهرت زراعته و تجارته فيها زمناً طويلاً -مصدراً أساسياً من مصادره، حتى وصف أحد ملوكها «بملك اللبان» خلال عصور لعب فيها البخور - و بالذات اللبان المستورد من حضرموت أو ظفار-دوراً هاماً في الحياة اليومية للحضارات الكبرى، فالسلالات الفرعونية في مصر كانت تقدم البخور للآلهة، وتظهر النقوش الآشورية في نينوى محارق البخور الطويلة تحيط بصور الآلهة والعائلة المالكة،كما استخدمته الشعوب الأخرى لأغراض دينية أو طبية، ووفقاً للعالم الإغريقي القديم تيوفراتوس (Theophratus القرن الثالث قبل الميلاد) «فإن أشجار اللبان، والمر، والأكاسيا، والقرفة، توجد في شبه الجزيرة العربية بالقرب من سبأ و حضرميتا ( أي حضرموت) و قيتيبانيا (أي قتبان ) و ممالي».

تنمو بعض أشجار اللبان والمر في أعالي الجبال، بينما ينمو بعضها الآخر في الأراضي الزراعية الخاصة على سفوح الجبال، بعضها يزرع، و البعض الآخر ينمو دون زراعة، واليوم، لم يعد اللبان يزرع في مناطق الوادي الزراعية، إذ يكفي ما يأتي من الأودية الرافدة الفرعية ويجمع من الأدغال البرية لسد معظم احتياجات السكان.

ويخبرنا المؤرخ الروماني الشهير بليني (Pliny) أن جمع اللبان الحضرمي في العصور القديمة كان محصوراً بطبقة محدودة : « ... لا يزيد عن ثلاثة آلاف، عدد العائلات التي تتمتع بهذا الامتياز والذي يتوارثه أفرادها من الآباء والأجداد، ولذا فإن هؤلاء الأفراد لهم ألقاب مقدسة، وعليهم المحافظة على طهارتهم خلال فترة تقليم الشجر أو جمع المحصول».

وليس في حضرموت أو المهرة فحسب، فقد نالت عدن أيضاً شهرة فائقة عبر التاريخ بصناعة العطور المستخلصة من النباتات، وقد وجد ابن المجاور في عدن قيصاريات خاصة للعطارين في أسواق خاصة بها، و يذكر المرزوقي: «وكان طيب الخلق جميعاً بها يعبأ ولم يكن أحد يحسن صنعه من غير العرب حتى أن تجار البحر لترجع بالطيب المعمول وتفخر به السند والهند، وترتحل به تجار البر إلى فارس والروم».

«يحترم» اليمني للغاية حاسة شمّه، ولذلك أهتم منذ القديم بالبخور واللبان والعطور واشتهر بتجارتها، وإذا كان بشار بن برد يقول «الأذن تعشق قبل العين أحيانا» فهو بالتأكيد ليس يمني الهوى، في اليمن «الأنف يعشق قبل العين» غالباً، والبخور جزء هام من حياة اليمني وجزء مميز في ضيافته، إذ يحرص على «تبخير» ثياب ضيفه قبل مغادرته بما يبقى أثره العطر أياماً بعدها.

و أنواع البخور كثيرة، منها النباتي كاللبان والعود، ومنها ما يطبخ في المنازل، وهناك عائلات توارثت حرفة صنع البخور وعرفت بها، و الخلطة «المطبوخة» تحوي العنبر والمسك ودهن اللبان والعود وغيرها، وهذه «الطبخات» تنتج، إلى جانب البخور، زيوتا عطرية مختلفة، منها «الزباد» و «الأخضرين» و «المعشوقة» و «الدليلة» و«المجموع» و غيرها، و يُحرق البخور ليبخر برائحته العطرية كل شيء، البيت، الثياب، الجسد، الشعر، أغطية الأسرّة، ولكل منها بخور مختلف، أما اللبان فيستخدم للتبخير والتطهير وتحسين طعم مياه الشرب و الوقاية من الحسد.

و ربما تكون مدينتا عدن و لحج، أكثر المدن اليمنية المعروفة في العقود الأخيرة بخبرتها بالفل والبخور ومختلف المعطرات، وقد أخبروني أنه في ليالي صيف لحج، حين يسمر السكان و ينامون على أسطح منازلهم، تنتشر رائحة البخور والفل والكادي في كل مكان، حتى يتحول الحي قارورة عطر.

في أمثالنا الدارجة «ليس كل من حمل الصواني أصبح حلواني»،لا يكفي إذاً أن تمتلك البخور العدني أو اللحجي المشهور أو العود الهندي والمبخرة والمشجب (نصب خشبي توضع تحته المبخرة و أعلاه الملابس لتبخيرها)، عليك أولاً أن تعرف أسراراً توارثها اليمنيون عبر القرون، للطريقة التي تحوّل المرأة شجرة فل وكادي، تترك في كل مكان تعبره عبقاً يوحي أن نهر عطر يمني مرّ من هنا .

وعشق اليمنيون «للعرف» الطيب تلمسه بوضوح في أغانيهم الشعبية، ويغني الفنان حسن عطا:

منقب صدفة لاقيته وكم يا قلب حبيته

ومن بين الخضيرة عبر جاني عبيره

و يقول الأمير أحمد فضل القمندان في إحدى أغانيه:

يا فل يا كادي ألا يا موز ويا مشمش ويا عنبروت

يا نجمي الصادي يا سمهري القامة أسيل الخدود

و ينشد في أغنية أخرى:

نسنس نسيم الصبا بالمسك و العود والند

وريحة المسك ذكرني شذا وردة الخد

أهم هدية تمنحها المرأة اليمنية هي علبة بخور صغيرة، تختصر داخلها سحر اليمن، وأجمل ما يأتيني من عدن عقود فلها الكبيرة ملفوفة بأوراق الكادي والمشموم(الخوع) والأزاب والحنّون والبعيتران، تملأ المكان بروائحها الزكية لأيام طويلة.. تنشر عبقاً مذهلاً.. يكفي أن أغمض عينيّ.. ليحملني إلى جنّة الطيوب والعطور .. إلى جنة عدن .

[email protected]

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى