المكلا بين لونين

> صالح حسين الفردي:

>
صالح حسين الفردي
صالح حسين الفردي
منذ أن لامست اطرافها خيط البحر، واسندت ظهرها إلى صدر الجبل، تدثرت المكلا بالبياض، واتخذته فضاء لها، وبقيت تعشق الأبيض ويكبر معه عشقها، وتتعمق في مدلولاته ومعانيه، فهو الطهر، وهي تغتسل كل يوم جديد بماء البحر، ورذاذ السماء، وهو الصفاء وهي صافية القلب والطوية ، تحتضن الغريب، وتأنس إلى صدق الروح، وهو - أي اللون الأبيض - النقاء، وهي نقية من كل الأدران المجتمعية المقيتة ، وجولة واحدة في أمكنتها، وأزقتها، وحواريها القديمة تنبئك بيقين النقاء والصفاء والطهر، ولن تجد فيها إلا هذا التعاضد والتلاحم بين بيوتاتها، والبقاء على فتحة في أعلى الجدار من جهة المطبخ، للتداول اليومي بين الجيران لكل احتياج يتم فقده في لحظة ما، وإن لم يكن، فللسؤال وتطييب الخواطر بين نساء البيوت، وهذه عادة مازالت حتى اللحظة، وإن فقدت في التجمعات السكنية الجديدة. واللون الأبيض يدل على السلام، والمكلا كذلك، مسالمة مدنية حضارية ، ساكنوها هم عصارة السلوك الحضرمي، المتمسك بالجذور المنفتح على السواحل ومدن العالم، ففيها من كل بقعة من بقاع حضرموت بادية وريفاً، نجعاً وقرية، وحتى وقت قريب كان السلام عنوان المدينة، ومازلنا نتذكر صغاراً ما يتم نثره من ماء أمام بوابات البيوت المفتوحة لتلطيف حرارة الأرض، وافتراش الحسر أو السلقة المكلاوية، للذهاب في نوم عميق لكل أفراد الأسرة، رجالاً ونساء، فأي سلام أجمل وأهدى وأعمق وأنبل من هذا.

وإذا ذهبنا إلى اللون الجديد الذي أطل برأسه غازيا هذه المدينة الوديعة الحالمة، مستغلاً سكينة أهلها، وغياب أو غيبوبة، فالأمر واحد، المجلس المحلي للمديرية والمحافظة، وكل الفعاليات الإبداعية الأخرى، ذلك هو اللون(الأحمر) الذي بدأت تشوهاته ظاهرة للعيان اليوم من خلال بناء الكثير من العمائر العملاقة باللون الأحمر، خادشاً بذلك جمال المدينة ، مرسلاً لهباً ودماً في جوانبها وخاصرتها. والغريب أن يتم هذا البناء النافي لخصوصيتها بالقرب من مقر المجلس المحلي، وبجوار قصر القعيطي التراثي الباذخ ، ثم تتسلل الكثير من هذه العمارات لتدخل عنوة في نسيج المدينة، والكل صامت، مدللين على أن العشوائية والتشويه هي السمات الغالبة، مؤكدين انفصالهم عن لغة الجمال، وتناسق الألوان في المدينة التي يراد لها أن تكون في قادم الأيام زهرة السياحة الرائقة. والغريب في الأمر أن هذا النمط المعماري قد زامله في تشويه المدينة، مظاهر العشوائية المتعددة والمتناثرة في أوصال المكلا الحالمة، فالأنظمة المرورية، حدث ولا حرج، ومعمرو المدينة لا حديث لهم إلا عن العم سالم مبارك بامسعود رجل المرور الوحيد والأوحد الذي كان قوانين المرور العصرية تمشي على الطرقات والأزقة، ويزداد تعجبهم من انتشار أسواق القات مغلقة شوارع كاملة لمصلحة هذه الآفة السرطانية، المسكوت عنها، في قلب المدينة. وقد تناسل هذا الاجتياح الممزق لجمال المكلا، مكوناً تشوهاً في كل أرجائها، ففي حين كان الشارع الرئيس الوحيد الترابي الذي يخترق المدينة ، وباتجاه سير مزدوج ، عنوان الرقي الحضاري، والانسيابية في السلوك اليومي للإنسان المحب لمدينته، فقد كان المواطنون يتعاملون مع هذه الشوارع والأزقة بحنو كبير.

إذ يعمل كل صاحب دكان على ترتيب وتنظيف الأرض المجاورة لعقاره ورشها بالماء بعد جمع المخالفات في وعاء خاص بذلك، واليوم، ماذا حل بهذه المدينة؟ نترك الإجابة لكل من يرى في دواخله بقايا حب عميق للمكلا، علها تعود إلى لونها العريق، وبياضها الدائم!

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى