صيرة..أيام في عدن(1)

> ريم عبدالغني:

>
ما أن انتهت أعمال اليوم الأول لمؤتمر «عدن التاريخ والحضارة»، الذي نظمته جامعتا عدن وصنعاء، حتى سارعتُ إلى لقاء عدن .. المدينة التي ألبّي دعوتها دائما بكل فرح.

من أين أبدأ ؟ .. مشتاقة وحائرة أمام رغبتي في زيارة كل شبر فيها، و هيهات أن تكفي الأيام الثلاثة المتاحة لأشبع كل شوقي إليها وألتقي كل من أحبّهم فيها، وأعرف سلفاً أنني سأغادرها أكثر شوقاً إليها من ذي قبل...

و للأسف لم يكن ممكناًً أن أزور أهلها الطيبين وأتجول على سجيتي في طرقاتها البسيطة و أن تلامس قدماي مياه شواطئها الساحرة الممتدة إلى ما لا نهاية، إلا مساءً ..بعد انتهاء محاضرات ومداخلات المؤتمر الهام الذي جمع حشداً كبيراً من العلماء والبحاثة والمهتمين بحضارة اليمن من أنحاء العالم.

كانت فكرة خلاقة اقترحتها صديقتنا «عميدة»، الدكتورة اليمنية النشيطة، أن نسهر على شاطئ البحر في «كريتر».. لنتذوق السمك العدني المشهور مع الخبز الشهي، في إحدى « المخبازات» التي أضحت جزءاً من تراث عدن .. لا تكتمل زيارتها من غير المرور بإحداها. وهل من مكان أنسب لذلك من جزيرة صيرة؟..

عند أقدام قلعة صيرة وعلى طرف ردائها جلستُ وصديقاتي الست في «مخبازة صيرة» المطعم الشعبي البسيط الذي لم يولِ المظاهر أو التفاصيل الاهتمام الذي أولاه للتفنّن في تقديم هذه الوجبة حصراً دون غيرها منذ خمسين عاما، و هو- كما أخبرني محمد الشاب اليمني الأسمر الذي استقبلنا عند الباب - الأقدم في المنطقة.

مررنا بقسم الرجال المسقوف بشكل بدائي، لنصل قسم العائلات، وهناك جلسنا، في شرفة رملية صغيرة،لا سقف يحجب بريق النجوم، بضع طاولات تملأ المكان الصغير، اخترنا إحداها.. و انتظرنا الطعام..

لم يدم انتظارنا طويلاً، فسرعان ما حضر السمك المشوي فوق الخبز الرقيق، تسبقه رائحة شهية لا تقاوم .. بأدواتنا الأصلية الوحيدة- أيادينا- تناولنا طبقاً لا أشهى ولا أطيب..

بساطة المطعم و تواضعه أضفيا بعداً خلاباً على تفاصيل الأمسية، و من كل زاوية فيه تسلل إليّ دفء كثيرين مرّوا يوماً من هنا..واستمتعوا بما أستمتع به الآن.

هدوء لا يتخلله إلّا أصوات أمواج تتلاطم بدلال على الصخور القريبة، ومن مكان ما في الذاكرة تناهى إليّ صوت الفنان اليمني أحمد قاسم يدندن غزل الشاعر لطفي أمان لساحل أبين:

في صيرة تترقرق
والبحر والرملة والبدر الحبيب يشهد

كم تبدو دمشق بعيدة .. بل كم يبدو العالم كله بعيداً في هذه اللحظات .. لاحقت بعيوني شهاباً يهوي في السماء الليلية الصافية، وفكرت في أمنية، فوددت لو أن كل من أحبهم معي الآن في هذا المكان الساحر.نتأمل معاً الأمواج التي تُزفُّ إلى الشاطئ تحت ضوء القمر ونستنشق رائحة البحر في النسمات اللطيفة.

الختام المسك أتى في أكواب الشاي العدني الساخن، الممتزج بالحليب وحب الهال وجوز الطيب.. أسندت ظهري إلى ظهر الكرسي الخشبي القديم ..و أخذت أرتشفه بتمهل وأنا أجيل بصري في المكان كله .

عالياً، فوق ذروة جبل «صيرة »، بدت القلعة القديمة، تحت الأشعة الفضية، شبحاُ ضخماً رابضاً على صخرة عملاقة، يحرس المدينة الوديعة منذ مئات السنين، فمنذ بُنيت، بسطت القلعة حمايتها على ميناء عدن تحتها، من القراصنة والغزو الخارجي والطامعين، وما كان أكثرهم ! وفي قصيدته «من وحي صيرة»، يشير الأستاذ الكبير «محمد عبده غانم» إلى تصدّي «صيرة» لمحاولات الغزو البرتغالي، بقوله:

يا عروسَ الشطِّ في موكبهـا صفَّقَ الموجُ وغنَّى في اختيالِ ** يا عروس الشـطِّ هـذا «عامر» يتحدّى عنفـوان البرتغـالِ

أقبلوا في الفُلْك قد ضاقتْ بما حمَّلوها من أساليب القتـالِ ** فتلقـاهـم مســاعير الوغـى بالعوالي السمر والبيض الصقالِ

ومن «صيرة»، دخل «الكابتن هنس» و بريطانيا عدن عام 1839م ،بعد معركة غير متكافئة استبسل فيها أهالي عدن في الدفاع عنها، و لم يغادرها الانكليز -و قد فتنتهم-إلا قسراً.. وبعد 129 عاماً :

عندما أقبل «هينس» سادراً يتمـطَّـى بالأراجيف الثقـالِ فتصـدَّينا له ** فانتشـرت حوله الأشلاءُ في عرض التلالِ

رنين الهاتف الصغير في حقيبتي ينتزعني من الجو الشاعري ..«ليل الليل» يحثنا أبو حكيم السائق بلهجته اليمنية المحببة على الإسراع بالعودة..

على مضض ..ِعدنا إلى الفندق، لم تكن أيّ منا ترغب في المغادرة، أليس النوم مضيعة للوقت في حضور هذا الجمال المعتق ؟...

غالبتُ نعاسي مرددةً مع الشاعر:

فما أطال النوم عمراً ولا قصّر في الأعمار طول السهر

و بانتظار بزوغ فجر عدن من نافذتي البحرية، تناولت أوراقي و قلمي لأكتب لكم هذه السطور...

[email protected]

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى