واحة محبة .. أيّامٌ عدنية (2)

> ريم عبدالغني:

>
«واحة محبة» .. هكذا أجبت من سألني «كيف وجدت عدن؟».. أنّى التفتُُّ رأيت العيون الطيبة، تغمرني بمحبتها ، فأهلها ،كبحرها، راقين، صافين، معطاءين .. يحيطون ضيفهم بحنوّ احتواء الجبال للمدينة الهادئة في حضنها ،وهذا ليس جديداً ، فقبل سبعمئة عام وصف ابن بطوطة أهل عدن بأنهم «أهل دين وتواضع وصلاح ، يحسنون إلى الغريب ويؤثرون الفقير» .

يتسلل دفق محبّة عارم من كل قسماتها، أستنشقه في هوائها العذب.. في امتزاج الأخضر بالأزرق في بحرها الواسع..أتتبعه في الخطوط البسيطة المريحة لعمارتها وأحيائها و ملامح أهلها... في رائحة فلّها ...في كل ما فيها.

مذ بدأت الطائرة تحوم فوقها، أخذ قلبي يدقّ بشدّة.. و من فوق رأيت الأحياء البيضاء المتناثرة على سفوح الجبال السمراء المستلقية على شاطئ المحيط الهندي، ها هو المطار، ممر الهبوط الطويل يفتح ذراعيه للبحر، كأنّه يرحب بالقادمين ، مدرجه المميّز يبدأ من البحر و ينتهي بالبحر ، حريّته تسهل الإقلاع والهبوط.. و يُسر الاستقبال إشارة ذكية .. فكما «يُقرأ المكتوب من عنوانه»، «تُقرأ» المدينة من مداخلها.

تستلقي عدن نورس أبيض في كف عملاق أسمر، مشهد خلاب أخذ كل اهتمامي حتى لم أشعر أننا هبطنا على الأرض..

باب الطائرة يُفتح .. عدن ترحب بنا بنسمات دافئة رطبة محمّلة بأريجٍ استوائي..

«أشربها» في أول نفس أستنشقه، وفي طريقي إلى الفندق.. «تشربني» عدن بتأنٍّ.. بذكاء ورقة..

لم نلتق كثيراً..أنا و عدن ، لكننا نعرف بعضنا جيّداً ، طالما استكشفتها في من قابلتهم من أهلها الطيبين.. و إذا كان شرب بعض ماء النيل يُبقي المرء مشدوداً لمصر، فإن عدن تسبي بسحرها قلوب من عرفوها، و حتّى بعيداً عنها.. لا تُنسيهم نكهتها أيّ مدينة أخرى، تبقى وحدها بوصلتهم العاطفية.. يبحثون عنها في ملامح كل مدينة..في كل عقد فل ، في أيّ كتاب أو صحيفة أو رسالة، يشرقون بذكر صباحاتها، و يتألقون بذكر لياليها ، وينتشون بدندنة أغانيها القديمة، يحيطون أنفسهم دائماً بما يذكرهم بها، و لا يزيدهم ذلك إلاّ حنيناً، و حتى في صمتهم تسمع أغنية طالما رددها قاصدو عدن من فوق جمال قوافلهم متمنّين أن تقصر المسافات و يُطوى الطريق الطويل ليصلوها «عدن ، عدن، يا ليت عدن مسير يوم ».

كلامٌ يفهمه تماماً من دخل عدن، و في الأصل، فعل «عدن»، في تراثنا اللغوي ، معناه دخل إلى دنيا الأمن والرفاهية وسكينة النفس.

مدينة ألوف، تسكنك ما أن تسكنها ،لا تسألك عن جنسيتك أو لونك ، ولا يعنيها معتقدك ، تبسط ذراعيها لكل الأعراق والأجناس والانتماءات ، و عبر التاريخ تعايشت في ظلّ تسامحها مختلف الأديان والطوائف والجنسيات ، وتلاقحت الأعراف والثقافات ، وتحدّت عراقة إرثها الحضاري كل تغيير، الشرط الوحيد لنيل رضاها هو احترام تنوّعها وموزاييكها الإنساني الفريد ..

و لهذا أمنها الناس، و مارس كلّ في محرابها شعائره الخاصة، وكما يشهد الأحياء على تسامح عدن ، كذلك مقابرها ، احترمت عدن موتهم كما احترمت حياتهم، ففيها مقبرة للفرس، وأخرى للنصارى، وهي المقبرة البريطانية الكبيرة في «حافون» بحي المعلاّ، وإلى جانب عشرات المساجد «كالعيدروس» و«العسقلاني» و «أبان» و«الهاشمي» ، أنشأ اليهود كنيساً وبني الهندوس ثلاثة معابد ، وأقام الفرس معبدهم في الطويلة ، و الذي نزل فيه المهاتما غاندي عند زيارته عدن عام 1931م. كما شيّد البريطانيّون عدة كنائس مسيحية ، و لعلّ أهمّها كنيسة «القديسة ماريا»، و هي من معالم عدن المهمّة ، تطلّ منذ مئة و أربعين عاماً على حيّ كريتر القديم من فوق تلّ صغير ، تحوّلت عام 1947م مقرّاً «للمجلس التشريعي» ، الذي كان أعضاؤه يمثلون مختلف طوائف عدن، و هو الأول من نوعه في الجزيرة العربية، و قد ظلّ هذا المجلس يمارس مهامه حتى أُحرق في ستينيات القرن العشرين.

وطبعاً، عكس الطابع المعماري للمدينة تسامحها وغنى تنوّعها، فالعمارة توثيق للتاريخ الذي شهدته، و عصارة لفكر المراحل التي أنبتتها، مرآة لعادات المجتمع و تقاليده و ترجمة لمعتقداته و قيمه، وعلى مبدأ «تكلّم كي أراك»، «ابنِ كي أعرفك».

عشّاق المدينة مهمومون بالحفاظ على ملامحها الأصلية و طابعها الخاص، عيونهم تراقب بقلق عشوائية حركة البناء السريعة- في الفترة الأخيرة -على حساب أبنيتها القديمة و طرزها المميزة و شواطئها المفتوحة، يخشون أن تفقد عدن- ككثير من المدن الأخرى - هويتها.

و هم محقّون في قلقهم، فعمارة عدن تختزل في تفاصيلها صوراً من ماضيها و وجوه من مرّوا بها.. تختزن ذاكرتها ..و ماذا يكون المرء دون ذاكرة ؟..

نتابع حديثنا عن عدن في العدد القادم إن شاء الله.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى