«مرسى القلوب» أيّام عدنية(3)

> ريم عبدالغني:

>
ما زلت أختار لكم صفحات من مفكرتي، كتبتها في الأيام الجميلة التي قضيتها في رحلتي إلى عدن قبل أسابيع...الاثنين 2 أبريل 2007 الثامنة صباحاً:بضعة نوارس توقظني كل صباح، أنهض بنشاط ،تمنحني هذه المدينة دفق حياة ، أفتتح نهاري بحوار لطيف مع بحر يملأ الدنيا هنا ، أزيح الستارة لأطمئن أن البيت الأبيض الصغير مازال يرتاح مكانه فوق الجزيرة الجبلية ، أمام شاطئ مفتوح -منذ خلقه الله -لأمواج البشر و طوفانات الأفكار ، و صدق من سمّاه الشاطئ الذهبيّ (جولد مور) .

صحن «الباباي» أو «العنبة» فاكهتي اليمنيّة المفضلة ، يتفنن (بسّام) -موظّف الفندق - في تقطيعها لتأخذ شكل مركب شراعي ، يذكّرني أنني في (أمّ الموانئ) و(بنت المحيط). يصبح (بسّام) اسماً على مسمّى إذ تتسع ابتسامته و أنا أشكره، و أخبره عن تقديري لما أُحطت به من دلال من قبل فريق الفندق اللطيف.

من نافذتي.. تأملتها.. ألمح من موقعي خليج الفيل، و سبحان من نحت الجبل الداكن على شكل فيل عملاق ، تكاد الحياة تدب فيه، يذكرني مشهده بالتاريخ الضارب في القدم للمدينة التي ورد اسمها في كل الكتب المقدسة ، تقودني التداعيات إلى تذكّر صورتها من الجوّ ،كما رأيتها من نافذة الطائرة صباح وصولي ، تكاد تجزم أنّ شبه جزيرة عدن هي رأس ديناصور ضخم ، استلقى في البحر منذ زمن الديناصورات ،و ربما هو آخرها ، عينه الكبيرة (كريتر)، فوهة بركان خامد ، تركّز حولها الجزء الأقدم من المدينة ، و قرناه جزيرتان صغيرتان تجاوران اليابسة ،أحداهما جزيرة (صيرة) و الأخرى (معاشيق) ، أمّا رقبته التي تصل شبه جزيرة عدن باليابسة فهي حيّ (خور مكسر) الذي يجاور المطار.

أستعرض في ذهني أسماءها الكثيرة..«عروس البحر»، «درّة المحيط» ، «باب اليمن» ، «أعظم المراسي»، «ثغر اليمن»، «أقدم أسواق العرب»… تسميات تتفق و عراقة عدن كميناء تجاري منذ ثلاثة آلاف سنة ، و موقعها الاستراتيجي الذي لعبت من خلاله دورها المهم في التجارة مع بلدان الشرق الأقصى وأفريقيا وغيرها.

و ربما يجب أن نضيف اسم «مرسى القلوب» لتسميات عدن ، بما تمنحه طبيعتها الإنسانية الخاصة من شعور بالسكينة ، كما منحت طبيعتها الجغرافية دائماً الأمان للمراكب لترسو في ميناء كريتر المتميّز بعمقه و تجد بين جباله مأمناً من الرياح ، فوصف المقدسي عدن بـ «بلد جليل عامر آهل حصين خفيف»، و ربما كان هذا ما جعل ميناءها الأشهر بين موانئ المنطقة ، حتى شبّه ابن المجاور النشاط فيه و ازدحامه عند قدوم المراكب بـ«يوم الحشر»، و قال ابن الديبع «الأرزاق تساق إليها من كل جانب»،و أكد ابن بطوطة أنّ «للتجار منهم أموال عريضة» .

بعد عشر سنوات من احتلال بريطانيا لعدن ( أي في 1849م) ، تحول الميناء الأساسي من كريتر إلى منطقة التوّاهي ، ليتصدّر موانئ العالم ، واصلاً بين غرب و شرق مستعمرات المملكة التي «لا تغيب عنها الشمس» ، و لفترة طويلة بقيت عدن القلب النابض لحركة التجارة العالمية و خليّة نحل تعبرها آلاف السفن والطائرات سنويا.ً

الإثنين 2 أبريل 2007، قبيل منتصف الليل:

انتهى اليوم الحافل وهدأ الضجيج ،و رغم أني وحدي.. لكنّي شعرت بوجودها.. بأنفاسها تعطّر المكان.. عدن.. الآن أنا وأنت وحدنا، وما زلت حيرى أمام شعوري بالرهبة أمامك دون غيرك من المدن.. ما سرّ هذه المدينة التي أشعر بروحها.. أراها .. أخاطبها .. أتوق إليها.. وأخافها؟..هذه الطاغية الأنوثة، التي لا تشبه المدن ولا تشبه النساء..كعروس البحر الأسطورة ..نصف امرأة و نصف سمكة.

أعجبتني الفكرة .. وذكّرتني بشيء، فبعثرت أوراق حقيبتي الصغيرة بحثاً عنها حتى وجدتها.. صورة الرجل الطويل بشاربيه الكثّين.. يلقي يده بفخر على كتف كائن ضخم يشبه عروس البحر.. ، نصفه السفلي ذيل سمكة رشيق، أما نصفه العلوي فقد أخذ الكثير من ملامح جسد أنثوي.

أسفل الصورة كُتبت الكلمات التالية:«صورة تذكارية التقطت في عدن عام 1941م، لرجل بريطاني اصطاد عروس بحر، و بقيت في متحف الصهاريج بعدن حتى وقت قريب»، تأملّتها بتمعّن..و قبل أن أعيد الصورة إلى مكانها بين أوراقي، علّقتُ على ما كُتب تحتها بقلمي الرصاص «مصير عروس بحر انسلت هاربة من حاشية ملكة عرائس البحار..عدن».

أمّا وقد اقترب الصباح، فسأتوقف هنا لأقول - اقتباساً عن جدتنا شهرزاد - «سأكمل - لكم عن عدن - بقية الكلام المباح.. في العدد القادم المتاح»..

[email protected]

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى