> «الأيام» عبد الناصر النخعي:

ظاهرة الغموض الشعري وعدم الوضوح الدلالي يعدّها كثير من النقاد من سمات المدرسة الواقعية التي انجبت الابن المدلل (الشعر الحر)

وهي ظاهرة بحاجة إلى مزيد من الدراسة والبحث، والتأمل، ومن ثَم التقييم والحكم عليها.

فالباحث ينبغي له ان يتتبع هذه الظاهرة تتبعاً تاريخياً أولاً قبل أن يصدر حكمه على فئة من الشعراء أو على حقبة زمنية من حقب الأدب كما هو الحال عند من يجعلون الغموض الشعري من سمات الواقعية، ولا يشاركها فيه أي مذهب من مذاهب الأدب الأخرى.

فالتعمية والانغلاق، والغموض الذي وصلت إليه القصيدة العربية الحديثة في الأفكار والمعاني، كل ذلك لم يكن حدثاً جديداً أو بدعاً من القول في العصر الحديث. كما يزعم النقاد، ويتغنى بعضهم بهذه السمة وهذه الميزة، التي تبدو على افكار الشعر المنثور أو الشعر الحر كما يحلو لبعض الدارسين أن يسميه.

فالاهتمام بالشعر، والكشف عن أدبية النص، أو شعريته تدفع المرء، ولاسيما الباحث الناقد إلى المعاينة الطويلة والنظر في نقد النصوص والولوج إلى عالم الشعر وفك رموزه ومن ثم محاولة استنطاقه وتبيين شفراته وكل ما يؤدي إلى فهم النتاج الشعري (التقليدي أو الحداثي)

فبعد ظهور حركة الشعر الحر اتسعت الكتابات النقدية وتغيرت النظرة إلى الإنسان والكون والأشياء لاسيما الشعر، ونشأت علاقة جديدة بين النص والقارئ ولا غرابة في ذلك، فالنص الحداثي متعدد ومتنوع ولا نهائي، بل هو مراوغ يحمل العديد من المفارقات، وفي ظل هذه العلاقة الجدلية بين سطح القصيدة وعمقها ينمو جسد القصيدة وتتشكل دلالاتها ومعانيها، غير أن ما ينبغي طرحه هنا والتنبيه إليه أن ظاهرة (الغموض والإبهام) ليست بجديدة على الشعر العربي ونقده، فقد وردت هذه الظاهرة في شعرنا العربي منذ عصور الأولى، ومن يقرأ ويراجع قصائد أبي تمام، ومسلم بن الوليد وأبي العلاء المعري يجد الغموض بعينه هناك.

وبظهوره في تلك الفترة برزت مدرستان تمثلان اتجاهين مختلفين،إحدى هاتين المدرستين، تنتصر للقديم وخصائصه وسماته، والأخرى تنتصر للغموض والإبهام وتعده شيئاً داخلاً في طبيعة الشعر، ولا بد للشعر منه.

بل نادى بعض النقاد آنذاك بالإكثار من الغموض، إذ إنه سمة من سمات الشعر الجيد والمتين، كما جاء على لسان أبي إسحاق الصابي: «أفخر الشعر ما غمض، فلم يعطك غرضه، إلا بعد مماطلة منه» ثم جاء بعد الصابي الجرجاني الذي انتصر للغموض أيما انتصار.

واليوم نسمع بعض الأصوات المفاخرة بأن الغموض يعد سمة تتفرد بها المدرسة الواقعية، وابنها الشرعي (الشعر الحر) ويسمون هذه الظاهرة بمسميات أخرى بهرجة وتلميعاً وهرباً من المواجهة النقدية الصريحة، فنسمع منهم: الشعر الفانتازي،والشعر الايحائي، والشعر الرمزي، والشعر التوليدي وكلها مسميات براقة لماعة، قد وردت عند العرب الاوائل ولكن الحال كما قال احد هؤلاء الأوائل:

ألقاب مملكة في غير موضعها

كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد