1931 - الزعيم غاندي يلتقي الأهالي في الشيخ عثمان

> «الأيام» فاروق لقمان:

> في صباح يوم الثاني من شهر سبتمبر 1931 رست في ميناء التواهي سفينة بريطانية اسمها «راجبوتانا» نسبة إلى ولاية هندية. ولم يكن ذلك في حد ذاته حدثاً هاماً، فقد كانت عدن أهم محطة بحرية بين الشرق والغرب من استراليا وهونج كونج إلى بريطانيا عبر قناة السويس، لكن أهميته كمنت في نقلها أحد أهم رجال العالم على متنها وهو يقف عليها يتفرج على جبال التواهي في انتظار وصول مندوب الحكومة الاستعمارية في عدن، التي كانت تُحكم من مقر المحافظ الإنكليزي في مدينة بومبي حتى عام 1937 .

كان الرجل الهندي النحيل لا يرتدي سوى قطعة قماش بيضاء حاكها بيديه على عجلة يحركها كلما سنحت له فرصة وهو يناضل لتحرير أكبر وأغنى مستعمرة في العالم دون اللجوء إلى العنف بكل أنواعه وهو في طريقه لحضور مؤتمر المائدة المستديرة في لندن للمطالبة بالاستقلال بالتي هي أحسن.

وقبل وصول مندوب الحاكم كان الوالد محمد علي لقمان المحامي رحمه الله قد ركب زورقاً بخارياً (لنش) من محطة الأبكاري متجهاً إلى السفينة، مغتنماً فرصة غياب المندوب أو جنوده، وسلم على المهاتما باسم نادي الإصلاح العربي الذي كان الأول من نوعه في عدن وموقعه في «الميدان» بكريتر ورحب به في المستعمرة التي كانت تتابع جهاده العنيد ضد أكبر إمبراطورية في العالم والتي تفككت مباشرة بعد نيل الهند استقلالها عام 1947 ولم يبق منها الآن إلا بضع جزر صغيرة لا تغني ولا تسمن من جوع ولا يريد أهلها الباقون تغيير أوضاعهم.

ولما سمحت الحكومة ممثلة بقائد الشرطة الأبيض للمهاتما بالنزول إلى البر توجه الزعيم وبرفقته الوالد أولاً ثم جمع غفير من العرب والهنود نحو المبنى الذي كان يضم شركة قهوجي دنشا في التواهي، مقابل الحديقة التي ضمت تمثال الملكة فكتوريا. ثم توجه الركب إلى الشيخ عثمان حيث أقام الأهالي حفلاً تكريمياً في بستان الفارسي لأشهر رجل غير أبيض في العالم لا يمتلك سوى غطاء لصدره وفوطة من صنع يديه وساعة بسلسلة ونظارة والكتب السماوية الثلاثة مع كتاب أدعية هندوسية.

غاندي يتجول بعدن وبجواره ضابط بريطاني
غاندي يتجول بعدن وبجواره ضابط بريطاني
وأُقيمت له حسب مذكرات الوالد التي نشرها باللغتين في 21 سبتمبر 1961، خيمة كبيرة وأهداه الأهالي ما يعادل ألفاً وستمائة دولار لينفقها على حركته أو على أفقر المنتمين إليها مما أغاظ الإنكليز كثيراً لكنهم لم يتخذوا إجراءات عقابية في ذلك الوقت ربما خشية إثارة الزعيم شبه العاري.

وبعدما ألقى الوالد كلمة ترحيبية نيابة عن نادي الإصلاح العربي وترجمها إلى الإنكليزية ليفهمها الزعيم والحضور من غير العرب، طلب الجمهور من غاندي أن يلقي كلمة بتلك المناسبة التاريخية والموقع كله محاط بالجنود والمباحث من البيض والمواطنين.

تحدث غاندي شاكراً الأهالي، الذين تحدوا سلطة الاستعمار وهتفوا بحياته، على ابتعاث مندوب عنهم لمقابلته بعدما طُلب من الوالد ترجمة خطابه إلى العربية. واستشهد بالقرآن الكريم مشيداً به مادحاً رسول الله صلى الله عليه وسلم والخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وقال إن الله قد حرم الخمر وأكد رسول الله على ذلك. وناشد الهنود المقيمين التآخي والتعاون مع الأهالي العرب. وبينما شكر الجالية الفارسية على تقديم بستانها للترحيب به عبر عن استيائه من قيام أفرادها ببيع الخمور في عدن التي حرمها دينها وناشدهم الإقلاع عن ذلك لما في ذلك من أضرار تلحق بالأهالي. والواقع أن تجارة الخمور بالكامل تقريباً كانت بيد الفرس وأذكر منهم قهوجي التي كانت حانته ومتجره متاخمة لدار «فتاة الجزيرة» شارع محمد علي لقمان حالياً، وعلى مقربة منها كانت حانة بيكاجي كاوسجي، وبجانب مكتبة الإرسالية الدنماركية حانة بالنجي دنشا، وعلى بعد أمتار متجر خمور باسم «اشياتك» أمام مدرسة اليهود السابقة، ومثلها عشرات في كل أنحاء عدن. حتى أن الشارع الرئيسي في الشيخ عثمان لم يسلم منها. ومثلها المعلا والتواهي.

غاندي في دكة الابكاري بالتواهي
غاندي في دكة الابكاري بالتواهي
وخلال مرافقته للمهاتما سأله الوالد الذي لم يكن قد تخرج بعد بشهادة الحقوق من بومبي «إن كان يحبذ مطالبة الأهالي بالخلاص من الإمبريالية»، فأجابه بقوله: «عدن قلعة وعليك بالسير رويداً وبحذر لأن الإمبريالية لا تزال جبارة لكنها لن تدوم طويلاً». وفعلاً نالت الهند استقلالها عام 1947 وتبعتها كل دول شبه القارة ثم آسيا وإفريقيا.

ولما عاد المهاتما إلى عدن في طريقه إلى الهند توقفت سفينته في التواهي فسأل عن الوالد باسمه لأنه كان غائباً هذه المرة لأسباب شرحها الوالد في مذكراته بتاريخ 28 سبتمبر 1961 . وتتلخص في أن المباحث الإنكليزية استدعته للتحقيق معه وتهديده لترحيبه بالزعيم الهندي الذي كان يغلق الهند بمجرد كلمة واحدة منه.

والتقاه نائب مساعد الحاكم واسمه ريجينالد شامبيون، الذي أصبح فيما بعد حاكماً للمستعمرة، تاركاً الوالد واقفاً طيلة وقت التهديد والوعيد. وسأله: «هل كان ما قلته أمام الزائر الهندي من شأنك؟» فأجابه: «إن من شأن كل فرد الإشادة بزعيم عظيم». وأبلغه بأن الحكومة ستتخذ إجراءات حاسمة ضده وأمره بمغادرة مكتبه وهو يشتعل غضباً مع أن حكومته في الهند ولندن كانت ترتعد أمام الهندي شبه العاري الذي لم يكن يملك من الدنيا شروى نقير.

التقى الوالد بعد ذلك مباشرة بصديقه المحامي الهندي الشيخ محمد عبدالله، والد المحامي الصديق طارق، وسرد عليه القصة مستغرباً لأنه كان يؤمن بالديمقراطية عموماً فلماذا تهدده المباحث بالويل والثبور. فأجابه الشيخ محمد: «لا توجد ديمقراطية في مستعمرة».

ونصحه بالسفر لدراسة الحقوق في بومبي. وفعل وهو يعول سبعة أطفال وثلاثة أشقاء وأمهم المطلقة ومعها ثلاث فتيات من عدن ولحج تقوم بتربيتهن. والجميع على حسابه وهو مجرد موظف في شركة البس.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى