في قلب عدن (أيّام عدنية 5)

> ريم عبد الغني:

>
توقفت السيارة أمام السوق التجاري الكبير "عدن مول"، المبنى الحديث الضخم، الذي يحتوي على مئات المخازن التجاريّة، أدخله مجتازة البوابة الزجاجيّة الواسعة، لا يستغرق الأمر إلا بضع دقائق، أقرر بعدها أن أعود أدراجي إلى السيارة، "لماذا نعود؟" تسألني مرافقتي بدهشة، فأخبرها أنني قد أجد مثل هذه الأسواق في أي مدينة أخرى في العالم، لكنني "لن أجد عدن إلّا في عدن"، ولن أفوّت - في الأيام القليلة المتاحة لي فيها -أي فرصة أتذوّق فيها نكهة حاراتها الضيقة وأزقّتها الحميمة و أرتوي من رائحة بحرها..

و أين أجد عدن أكثر من حيّ "كريتر" ؟ البركان الخامد الممتد كرأس صخري في مياه خليج عدن، بفوهته المحاطة بسلسلة جبلية بركانية، والذي على سفوحه نبتت - منذ آلاف السنين- عدن.

و للدخول إلى كريتر ، كان لا بد من المرور ببوّابة عدن القديمة أو "عقبة عدن"، والتي بقيت مدخل عدن البرّي الوحيد لعدّة قرون، و دُعيت قديماً بـ"باب البر"و"باب السقاءين" و باب "الزيارة".

في بداية الأمر كانت العقبة ثلمة في الجبل، ثم وُسّعت على مراحل ، في عصور مختلفة، آخرها ما قام به البريطانيون، حيث اتسعت لعربتين وعُبّدت بالإسفلت، وأقاموا نقطة تفتيش قربها، و ينفطر قلبي كلما وقع نظري على الصورة التذكارية المأخوذة عام1961 للحظة تفجير العقبة بهدف توسعيها ليواكب مدخل المدينة المتنامية تسارع حركة الدخول والخروج إليها، و يُثير استغرابي أن الإمبراطورية البريطانية العُظمى -بكل إمكانياتها - لم تدرس حلول توسيع عقبة عدن بالأساليب العلمية الهندسيّة، بدلاً من نسف معلم هام كهذا، بطريقة بدائية ودون احترام لتاريخه.

اليوم، لم يبق من العقبة القديمة المسقوفة بالجسر البديع الذي كان يعلوها، إلا نصب وسط "جولة" المعلا القريبة، يصورها مصغّرة وسط صخرتين كبيرتين تمثلان الجبلين اللذين نحتت بينهما.

وكريتر قلب عدن ، ترى فيه جمالها دون تبرّج، مهرجان متداخل من البشر والألوان والأصوات والبضائع والروائح على خلفية الأبنية القديمة التي تشهد رحيل أجيال وقدوم أجيال، هنا نبض المدينة، مساجدها الأولى، شريانها التجاري الأساسي سوق "الطويل" بمخازنه المتنوعة البضائع وباعة يفترشون البسط، وسوق "الزعفران" المزدحم ووسطه محل "الصوري" الذي يقدّم لعدن حلوياته منذ سنين طويلة، هنا "المجلس التشريعي" القديم ومقر ممثل الحكومة البريطانية والمحكمة والسجن المركزي القديم ( الذي تحوّل بعد الاستقلال وحدة سكنية)، والسينما المشهورة "مستر حمود"(هريكن حالياً)، واستاد "الشهيد الحبيشي" الرياضي الكبير بجانب "مئذنة عدن"(وربما منارة)، التي يُقال أن الخليفة "الخامس" عمر بن عبد العزيز أمر بتشييدها...

كل ذلك يعطي "كريتر" طابعها الخاص ، لكن أكثر ما يمنحها بعدها التاريخي هو صهاريجها الكثيرة (يقال خمسين)، التي شُيّدت في مضيق وادي الطويلة بطريقة فنية وهندسية غاية في الدقة، يتم من خلالها تلقف مياه الأمطار الموسمية المنحدرة من قمم جبل شمسان في شبكة دقيقة من الخزانات والقنوات والمصارف، لتسقي المدينة التي لم تعرف مصدراً ثابتاً للمياه قبل هذه الصهاريج، التي أثرت حتى في التخطيط العمراني للأحياء في كريتر (ويقال للحي هنا حافة)، فتوزعت بين المسيلات الثلاثة الأساسية (الخساف-الطويلة- العيدروس)، التي تتدفق في مجراها الجاف(و كان يستخدم عادة سوقا للجمال) المياه الفائضة حتى بحر صيرة.

توقفت بانبهار أمام عظمة هذا الإنجاز الهندسي ودقة إحكام هذه المنظومة المتكاملة لجمع وتصريف مياه الأمطار التي أبدعتها العبقرية اليمنيّة لتزويد المدينة بالماء على مدى مئات السنين، إلى أن تعرضت للانهيار والتخريب إبان الاحتلال العثماني الأول لليمن(نهاية القرن السادس عشر).

ولأنّ "أهل عدن أدرى بجبالها وسواحلها"، أصغينا باهتمام لابن عدن الذي تكرّم بمرافقتنا، وهو يشرح لنا بحماس عن معالم المدينة وتاريخها في الجولة القصيرة التي قمنا بها..

حماسه يترجم الارتباط المؤثر بين عدن و أهلها.. ويحـرّك حنيني المتنامي أبداً لمدينتي الساحلية .. وأي علاقات نبنيها مع الأشياء أو البشر، إذا لم تكن لدينا عـلاقة بالمكان الذي ترعرعنا به و شهد مراحل من عمرنا ؟ ، ألا تتعامل حواسنا مع العالم من خلال ذاكرتها؟ ألا تختبئ مفاتيح المشاعر بين ما خزّنته نُوانا -مُذ أتينا - من انطباعات، تتدفق عبر الخيوط الممـتدة من كلّ خلايانا إلى كلّ ما يكوّن محيطنا ويوجه مسار خطانا؟..

وماذا يكون أي لون وحده، إذا أجتُث من اللوحة الرائعة الغنية بالألوان؟ .. وهل من قيمة لقطعة صغيرة، حتى بتفرّد لونها وروعة شكلها، خارج لوحة الفسيفساء الأصلية العملاقة؟..

و الحنين والألفة لا يكونان لمكان عشنا فيه فحسب، بل حتى لأغانٍ أحببناها.. لطرقات مشينا فيها .. لأصوات أحباب لا تفارق آذاننا .. لوجوه اعتدنا رؤيتها و إن لم نعرف أسماء أصحابها.. لمدن -كهذه- نزورها فتستوطننا...

كما دخلتها، كريتر، أخرج منها، عبر بقايا "عقبة عدن" القديمة، محمّلة بالحنين ، أردد مع الشاعر أبو الصوفي :

خُلقت ألوفاً، لو رجعتُ إلى الصبا لفارقتُ شيبي موجع القلبِ باكيا

[email protected]

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى