بمناسبة مرور أربعين يوما على رحيل الشاعر والفنان والتربوي والمناضل عبدالله هادي سبيت

> «الأيام» عبدالقادر أحمد قائد:

>
نشأ الشاعر الكبير والملحن القدير الفقيد عبدالله هادي سبيت نشأة دينية ممتزجة بالأدب والفن، فقد كانت العائلة تسكن إلى جوار فنان عرف في لحج بسعد عبدالله اللحجي وهو والد الفنان محمد سعد عبدالله، وكانت أغانيه ومعزوفاته تشنف أسماع الطفل عبدالله هادي فيحاول تقليدها وترديدها، وكان يحب أن يستمع إليه وهو يغني قصيدة ابن هتيمل (أنا من ناظري) ويستوقفه فيها ذلك البيت الذي يقول:(من معيري قلباً صحيحاً ولو طرفة عين إن كان قلب يعار) جاء ذلك في ذكريات الفقيد وسيرته الذاتية والأدبية التي جمعها شخصياً الدكتور علوي عبدالله طاهر حين التقاه في تعز في السبعينيات وكان الوحيد الذي اختاره لذلك وقد أورد بعضاً من تلك الذكريات في الكتيب الذي صدر عن الندوة الخاصة بالشاعر عبدالله هادي سبيت التي نظمتها كلية التربية - صبر وقدم فيها مداخلته التي كانت بعنوان (عبدالله هادي سبيت - من الطفولة البائسة والنبوغ المبكر إلى الفن والإبداع) ونشرت في ذلك الكتيب الذي حمل عنوان (عيش بالمر نشوان).

ومع مرور الأيام صار يهوى الغناء ويحرص على حضور مجالسه خلسة من دون أن يعلم والده بذلك، فتعلم العزف على العود وتدرب على ألوان الغناء اليمني المختلفة من خلال وجوده الدائم في الجلسات والسمرات التي كانت تعقد في بعض بيوت الوجاهات في لحج وتجمع بين الأدب والفن وتشارك فيها قامات فنية وأدبية كبيرة مثل الشاعر والأديب صالح فقيه والشاعر والملحن الأمير عبده عبدالكريم والمطرب والملحن فضل محمد اللحجي الذين كانوا يشكلون مدرسة فنية واحدة، كما كان يتقابل مع الشاعر الشعبي الساخر مسرور مبروك في مساجلات شعرية.

تحلى الفقيد منذ طفولته بأخلاق وآداب حميدة وتزود بثقافة إسلامية خالصة عصمته من الوقوع في الملذات واتباع الشهوات، ولم يشغله قول الشعر ولا الاختلاط بالوسط الفني والتعامل معه عن العبادة فقد ظل مشدوداً إلى ثقافته وواجباته الدينية تقرباً من الله سبحانه وتعالى في كل وقت وحين وطلباً للطمأنينة والسكينة والمتعة الروحية.

كانت أولى محاولاته في الغناء - كما ذكرها في مذكراته- عندما رزق ابن عمه محمد سعيد سبيت مولوداً ذكراً، وهو ابنه محمود فأقامت له العائلة حفل ختان فطلب إليه الأمير مهدي بن علي أحمد أن يغني- وكان من بين الحاضرين في الحفل- فقد سمعه ذات مرة يعزف ويغني أغنية للقمندان فأعجب به ووقف إلى جوار النافذة يستمع إليه، إلا أن ابن هادي كان متردداً وخائفاً أن يغني أمام أبيه غير أنه محرج من الأمير ولا يريد أن يرفض طلبه، عندها وافق الوالد ولم يمانع من غناء ابنه، فأخذ العود وعزف عليه وغنى إحدى روائع القمندان:

نوحي ياحمامة فوف الغصن نوحي بدري في الصباح

فنال استحسان الجميع بمن فيهم والده الذي لم يكن قد سمعه يعزف على العود ويغني، فكانت تلك الحادثة إيذاناً بدخوله عالم العزف والغناء.

لقد حبى الله ابن هادي موهبة موسيقية وأذناً تميزت بالذوق، فقد استطاع أن يحفظ الكثير من الأغاني ويرددها باستمرار منها هذه الأغنية للقمندان: ليه الجفا يا منيتي ليه الجفاء/ ليلة صفا جد باللقاء ليلة صفاء

لقد وجد نفسه منجذباً إلى هذه الأغنية بل كان يبكي عندما يسمع المطرب الراحل صالح عيسى يغنيها، فأثرت فيه تأثيراً كبيراً وحركت فيه المشاعر وأوحت له بتأليف وتلحين أغنيته الأولى (القمر كم با يذكرني جبينك يا حبيبي) التي غناها في الأربعينيات المطرب الراحل أحمد يوسف الزبيدي وسجلت في اسطوانات إحدى الشركات في عدن وانتشرت انتشاراً واسعاً وبثت من إذاعتي لندن (البي بي سي) وصوت العرب من القاهرة وكان ابن هادي قد أهدى إلى هاتين الإذاعتين تسجيلاً للأغنية التي لحنها من مقام الراست مع وقوف مؤقت في جنس السيكاه على درجة السيكاه عندما غنائه لكلمة (ياحبيبي - منفردة) ثم يواصل الغناء في هذا الجنس للبيت الذي يقول:

(ياحبيبي كيف بانساها ليالي- كنت فيها بدر ساطع- في خيالي ياحبيبي) ثم يمهد للرجوع إلى مقام الراست بواسطة جملة لحنية تبدأ من الدرجة الخامسة (لا طبيعي) تكون هابطة حتى تصل إلى استقرار المقام في غنائه للبيت الذي يقول: (كيف بانساها ليالي- كل شيء فيها صفا لي.. الخ) واستخدام فيها الإيقاع الرباعي المعروف في لحج بالمركع (4/4)، فكما جادت قريحة القمندان الذي عمل على تطوير وتجديد الأغنية في لحج وقام بتوشيح الشعر وجعل فيه لوازم وتقفيلاً، واستخدام إيقاعات الرقصات الشعبية التي تزخر بها لحج ولحن وابتكر وطور في القديم، كذلك جدد ابن هادي مثله في الموسيقى والشعر، فقد استطاع مع بعض من معاصريه ومن سبقه في قول الشعر ولحنه ملء الفراغ الذي تركه القمندان برحيله رغم أن أباه لم يكن يريد له أن يصبح فناناً ولا شاعراً، فقد كان يحول بينه وبين ذلك.

وكما كان القمندان حريصاً على تطوير وتجديد تراث من سبقوه في مجال الشعر والتلحين كان عبدالله هادي سبيت كذلك فقد كان تراث القمندان بالنسبة إليه وإلى معاصريه هو المادة التي يمكن الاعتماد عليها والعمل على تطويرها وتجديدها فمن خلال التراكم النغمي والإيقاعي الذي حفظه واستوعبه واستماعه إلى الغناء اليمني القديم (الموشحة اليمنية) وجد في نفسه القدرة على التلحين رغم أنه لم يكن قد درس الموسيقى ولم تكن له معرفة بمقاماتها المختلفة لكنه كان يحرض على الاستماع إلى الألحان العربية التي كانت تصل إلى لحج بواسطة الاسطوانات أو أثناء وجوده في عدن وارتياده دور السينما وما تبثه الإذاعات العربية من ألحان وتعرّف على قوالب الألحان المختلفة في الفترة التي عاشها في مصر في عصر عمالقة الطرب العربي الأصيل. وهكذا استطاع ابن هادي تحديد شخصيته الفنية المستقلة فكان قرض الشعر عنده يسير متلازماً مع خلق الجديد في التلحين فكلما ظهر الجديد عنده من الشعر خرجت الألحان تلقائية من بين سطور القصيدة وكلما احتوت القصيدة على مقاطع كثيرة مختلفة الأغراض والمضامين جاء اللحن بجمل جميلة متنوعة في البناء اللحني كما قال لحن (سألت العين) الذي جاء مبنياً من مقام الراست وتحول منه إلى جنس بياتي على الروكاه فقط في لحن مقطع القصيدة الذي يتكرر في أجزائها الأخرى ويغلب عليه الجانب الطربي الرتيب يقول فيه:(وطول ليلي أشكي النجمة - حبيبي كم كثر ظلمه - بحبه ذقت أنا المرين.. الخ) ويختتم المقطع بالعودة إلى مقام الراست عند قوله (ولا يعطف بنظر عين) وعلى إيقاع الشرح اللحجي الثقيل (سلطاني - رباعي مقسوم) وبلغ مستوى التطريب فيه ذروته رغم أن ابن هادي كان قد عدل في اللحن الأصلي للأغنية الذي وضعه فقد قال في لقاء صحفي أجراه معه الأستاذ محمد بن ناصر العولقي:«إن اللحن الذي نسمعه اليوم ليس ذلك اللحن الذي كنت قد وضعته لابن حمدون» فهو كما يقول قد غير في جمله اللحنية وفي منعطفاته ويمكن أن يكون القصد من وراء ذلك هو التبسيط في وضع اللحن بما يتناسب مع سنه ومستوى أدائه، غير أن ذلك لم يغير من الأمر شيئاً فقد جاء اللحن المعدل على مستوى عال في البناء اللحني والتطريب، واستطاع عبدالله هادي سبيت أن يوظف مقام الراست ويستعين بجنس البياتي في بناء جمل رائعة.

وجاء لحن أغنية يا باهي الجبين مبنياً على مقام الراست أيضاً مع تنوع في المقامية والتحول إلى جنس سيكاه في لحن جملة (ما انساها ليالي مرت ياجميل) ثم يعود إلى مقام الراست عن طريق لحن الجملة التي تقول (ونا بين نهدك والخد الأسيل) ثم يتحول في مقامية اللحن إلى جنس بياتي على درجة النوى عند البيت الذي يقول (حتى البدر غاب - مابين السحاب - يخشى الالتهاب) ثم يعود إلى مقام اللحن الأصلي (الراست) عند قوله:

(من كثر العتاب- ذي به القلب ذاب - واحنا ذايبين)، واستخدم فيها إيقاع الشرح اللحجي الثقيل (سلطاني - رباعي مقسوم).

كما لحن أغنية (لا وين أنا لاوين) على مقام حجاز اليمن الذي تميزت به الأغنية اليمنية من حيث النكهة واللون واستخدم ويستخدم في صياغة الكثير من الاغاني اليمنية بألوانها المختلفة، يسميه البعض مقام الحجاز اليمني، ويخلط البعض الآخر بينه وبينه مقام الحجاز العربي الذي تستبدل فيه درجة العجم (السادسة سي بيمول) بدرجة الأوج (السادسة سي كاربيمول)، وما يميز مقام الحجاز اليمني عن مقام الحجاز العربي ويضفي عليه النكهة اليمنية الخالصة درجته الثانية الواقعة بين الكاربيمول والبيمول إضافة إلى اشتراكهما في الدرجة السادسة التي تستبدل بدرجة الأوج.

وفي هذه الأغنية (لا وين أنا لا وين) استخدم إيقاع الزف اللحجي أو الميحة على ميزان (6/8).

كما استخدم مقامات أخرى ولكن ليس مثل استخدامه لمقام الراست فقد بنى أغنية (بانجناه) و(يانور البصاير) من مقام الهزام واستخدم مقام الحسيني وهو من فصيلة مقام البياني في لحن أغنية (ألا لما متى يبعد) واستخدم جنس بياني في أغنية (دايم وسط قلبي أمانة) وجنس راست على النوى في أغنية (يبوي يبوي يابوي) واستخدام في ألحانه إيقاعات كثيرة مثل المركح، الزف، الرزحة والشرح اللحجي الثقيل.

هذه الألحان وغيرها جاء إنتاجها متزامناً مع تأسيس ندوة الجنوب الموسيقية عام 1957 التي دعا إلى تأسيسها شاعرنا مع مجموعة من الفنانين كان أبرزهم الفنان فضل محمد اللحجي وقدمت في الحفلات التي شهدتها لحج ودار سعد وعدن وكان ريعها يذهب لصالح دعم الثورة الجزائرية التي انطلق ماردها في عام 1954.

لقد عشق الراحل عبدالله هادي سبيت مقام الراست أكثر من غيره من المقامات الموسيقية فجاءت معظم ألحانه مبنية في هذا المقام وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على قدرته في توظيف هذا المقام في بناء الجمل اللحنية المختلفة حتى يظن من يستمع إلى بعض ألحانه التي لحنها على مقام الراست أنها قد بنيت في أكثر من مقام وجنس غير أن قدرة الملحن وموهبته في بناء الجمل اللحنية تجعل المستمع يطرب لذلك كما في لحن (سألت العين) وهذا هو السهل الممتنع في الموسيقى.

كانت له علاقات صداقة ودية وفنية مع كثير من فناني عدن أمثال الفنان محمد مرشد ناجي والفنان اسكندر ثابت الذي شكل مع ابن هادي ثنائياً رائعاً في الفترة التي عاشاها في مصر فمن رحم المعاناة عند الاثنين برزت قصائد لابن هادي تصور وتترجم اشتياقهما إلى الوطن مثل قصيدة: (يامسافر من ضفاف النيل إلى وادي تبن - بلغ الأحباب في الحوطة ومن فيها سكن) التي لحنها وغناها الفنان إسكندر ثابت مع قصائد أخرى تحرض على الثورة ضد الحكم الإمامي في شمال الوطن ومقاومة الاستعمار البريطاني في جنوبه مثل قصيدة (يا ظالم) سجلت في مصر وكانت تبث من إذاعة صوت العرب من القاهرة.

يعد الشاعر والملحن عبدالله هادي سبيت من وجهة نظرنا واحداً من الرواد الذين أدخلوا القوالب والأصول الحديثة في تلحين الأغنية اليمنية في لحج وعدن واستخدموا فيها المقامات الموسيقية المختلفة معتمدين في ذلك على أصالة الموروث الشعبي نغماً وإيقاعاً، فعملوا على تطويرها من خلال تقديمهم أروع الألحان المستمدة من روح وأصالة ذلك الموروث ومن التراكم الفني الذي تزخر به لحج حاضرة السلطنة العبدلية التي تعاطى سلاطينها وأمراؤها الشعر والفن والأدب وأنشأوا الأندية الرياضية وشجعوا قيام الندوات الموسيقية وتبنوا كل ذلك ورعوه وسخروا له الكثير من الإمكانات فكان فيهم الشاعر المجيد والأديب البليغ والملحن المقتدر، فقد كانوا يدركون أنهم بهذا إنما يحيون ويواصلون ما بدأه وسعى من أجله خالد الذكر المرحوم الأمير القمندان أحمد فضل بن علي محسن العبدلي فهم خير خلف لخير سلف.

رحم الله فقيدنا الشاعر والملحن والأديب والعلامة عبدالله هادي سبيت وأسكنه فسيح جناته..إنا لله وإنا إليه راجعون.

محاضر في النظريات الموسيقية العامة/ مدير إدارة الشؤون الموسيقية بمعهد جميل غانم للفنون الجميلة- عدن

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى