العوالق في ملوك العرب

> أحمد صالح الدغاري:

> انطلاقاً من مبدأ العدل والإنصاف، وبعيداً عن التعصب والانجراف، وللأمانة التاريخية وإجلاء للصورة الواقعية، من باب إزاحة الستار، عن غوامض الأمور ونفض الغبار، وفتح باب البحث عن الحقيقة التاريخية وسبر الأغوار، ولكشف ما التبس، أو احتجب عن القارئ أو ازداد أو نقص، وجدت نفسي مجبراً لست مخيراً، ولم يكن أمامي أي منفذ إلا نافذة الإدلاء بدلوي في موضوع كهذا، موضوع لافت للانتباه ويستحق الوقوف أمامه ملياً وذلك لكي يتسنى لنا بأمانة ومصداقية أن نسمي الأشياء بمسمياتها، وأن نضع النقاط على الحروف، بعيداً عن الاندفاع العاطفي، أو الانجرار وراء النزعات العصبية والقبلية الجوفاء، ذلك الموضوع هدف حديثي لم يكن له أي تحضير مسبق مطلقاً، بل ساقتني إليه أمواج الصدف من ناحية، وحبي للقراءة والاطلاع من ناحية أخرى، فوجدت نفسي بغتة قد جرفني الموج إلى غبة ذلك الكتاب (ملوك العرب) لأمين الريحاني.

أعزائي القراء، إن ما لفت انتباهي كثيراً، بل أدهشني إدهاشاً شديداً، وشعرت كأن عاصفة قد عصفت بي أثناء قراءتي للموضوع - ولا أشك أبداً أنكم لن تنالوا نصيبكم من ذلك، ولا سيما الذين لم يطلعوا على ذلك الكتاب، أو لم يسمعوا عنه - ويتعلق بموضوعنا هو ما جاء في الصفحتين (451 و452) من كتاب (ملوك العرب) الصادر في 27 أيار 1924م، 23 شوال سنة 1343هـ ، حينما تحدث عن قبائل العوالق، خاصة قبائل العوالق السفلى (باكازم)، وقال عنهم بالنص:«أما العوالق السفلى فأهلها أصدقاء الإنكليز منذ سنة 1855م، حين عقدوا معهم عهد ولاء، على أن يمنع السلطان دخول الرقيق من أفريقيا إلى بلاده، ولكنهم مع صداقتهم للإنكليز واختلاطهم وهم على ساحل البحر بالأجانب فلا يزالون على شيء يروع من الوحشية، وفيهم قبائل لا يعرفون الإسلام ولم يسمعوا بالنبي محمد.. وهم يتزوجون بدون عقد نكاح مثل عرب الجاهلية، وينكحون أخواتهم وزوجات آبائهم، ولا يصومون ولا يصلون. سألت مرة في دار الاعتماد عما إذا كانت السياحة في بلادهم ممكنة فأجابوا: نعم إذا كانت لا تهمك حياتك». إلى هنا ينتهي النص الذي سيتمحور حوله حديثنا، وسأطرح ما أراه من وجهة نظري الشخصية بهدف تحري الدقة وتقصي الحقيقة، وكشف الغمة، وإزالة الريب والعتمة، وتسليط الأضواء على موضوع كهذا، أعتقد أنه من الأهمية بمكان أن يحظى بالتركيز والتدقيق لما له من حساسية تاريخية تتعلق بحياة القوم الموصوفين بما وصفه المؤلف عنهم من أمور أعتقد بل وأجزم أنها عارية تماماً من الصحة، وأنا أثق تماماً أن ذلك لن يكون رأيي لوحدي، ولدي الأدلة التي تؤكد ما قلته وذهبت إليه في هذا المضمار، مع علمي أن القضايا التاريخية قضايا شائكة ومعقدة، فهي عرضة للزيادة أو النقصان، ولا يؤمن التاريخ من التحريف والتزييف في كثير من الأحيان، إما بقصد أو بغير قصد. لذلك سألج الآن في الإيضاحات والدلائل التي تنفي ما ورد في نص كتاب (ملوك العرب) لمؤلفه أمين الريحاني، ونسردها كما يلي:

بما أن المؤلف أمين الريحاني قد غادر الدنيا الفانية إلى الدار الآخرة، وبذل جهداً لا يستهان به، وتجشم مشاق السفر، وعناء البعد وإرهاق النفس، وأنفق جزءاً كبيراً من وقته في سبيل إصدار هذا الكتاب، فليس أمامي سوى خيارين لتحليل أسباب ما كتبه:

الخيار الأول: أنني لا أحمله المسؤولية كاملة عما كتبه، لأنه بكل تأكيد وبما لا يقبل الشك استقى معلوماته من مصادر ليست مصادر ثقة ونقلها كما سمعها وربما لم يكن يقصد الإساءة إلى أحد.

الخيار الثاني: أنني لا أعفيه من المسؤولية كاملة، على اعتبار أنه استقى معلومات كان يفترض منه أن لا يقبلها بهذه السهولة.. وهي بهذا الحجم من الإساءة لهؤلاء القوم المعنيين بالوصف، وكان الأجدر به أن يتحرى الدقة في ذلك قبل نشرها في كتابه المذكور.

أما الأدلة التي تنفي صحة ما ذهب إليه (الكاتب والرحالة أمين الريحاني) بهذا الوصف المشار إليه في النص فسنوردها على النحو التالي:

-1 المؤلف ذكر في معرض حديثه عن وصف العوالق بأنهم قوم وحشيون لا يعرفون الإسلام، ولا الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وأنهم ينكحون أخواتهم وزوجات آبائهم، وأنهم لا يصلون ولا يصومون من خلال معلومات تلقاها من مصادر في عدن، أي أنه لم يقم بزيارة ميدانية على أرض الواقع لبلاد العوالق، وذلك واضح وجلي من خلال اعتراف المؤلف أثناء سرده لحديثه أنه سأل أشخاصا في دار الاعتماد ما إذا كانت السياحة ممكنة إلى أرض العوالق، فأجابوه أنه إذا أراد أن يخسر حياته فعليه أن يذهب، فهذا يعني بوضوح أنه لم يزرها ولم ير تلك البلاد بعينيه، ولم يسمع من أهلها بأذنيه. وكان ينبغي أن يقوم برحلة ميدانية إلى تلك البلاد ليتأكد بنفسه من صحة المعلومات أو عدم صحتها.

-2 تناقض المؤلف مع نفسه في الصفحة (452) من كتابه حينما تحدث عن منطقة الواحدي، وأشار إلى مدينة حبان بأنها بلدة قديمة ذات ماض موصوف بالعلم والأدب، ويشبم، وأكد أنه يوجد فيهما حينئذ عدد من العلماء. ولا تبعدان إلا بخمسين ميلاً عن العوالق السفلى التي لا يزال فيها من العرب من لا يعرفون القرآن والنبي.

هنا المؤلف يشير إشارة واضحة إلى وجود تقارب جغرافي وترابط تاريخي وأسري بين المناطق التي أشار إلى أنها مازالت تعيش حياة الجاهلية ومنطقتي حبان ويشبم الغنيتين بالعلم والأدب والعلماء، فكيف لنا أن نصدق أن هنا ديناً وعلماً وأدباً وعلماء وهناك لا يوجد كما أشار المؤلف؟!!

-3 لا يمكن التصديق بتاتاً بأنه كان في النصف الأول من القرن الرابع عشر الهجري أقوام أو تجمعات سكانية على مستوى اليمن خاصة والوطن العربي عامة لا يعرفون شيئاً عن الإسلام والرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وأنهم يتزوجون بدون عقد نكاح شرعي مثل عرب الجاهلية وينكحون محرماتهم. لربما لو أشار إلى أنها كانت هناك حالات لا تؤدي فرائضها المكلفة بها مثل الصلاة أو الصيام أو الزكاة أو بعض الأمور الواجبة الأخرى التي نص عليها الكتاب والسنة، فربما وافقناه الرأي، لأن مثل هذا قد يحدث اليوم في مختلف بلدان العالم الإسلامي، فيوجد مسلمون اليوم يخالفون كتاب الله وسنة رسوله في ارتكاب المعاصي أو بالأحرى يحصل منهم بعض التقصير كأن يقصر المسلم في الصلاة أو الصوم في رمضان أحياناً، أو أن يمتنع عن أداء الزكاة الواجبة عليه، أو يفعل الفاحشة، أو يكذب أو يخون، وغير ذلك من الأمور المنهي عنها، ولكنه يفعل مثل هذا وهو مدرك تماماً أنه يرتكب خطيئة، أو يعمل عملاً نهى عنه الدين.. وشتان ما بين الأمرين.

-4 كما أشار المؤلف إلى أنه يوجد العديد من العلماء في حبان ويشبم. وأنا أؤكد أنه توجد كثير من العائلات والأسر المتفقهة في علوم الدين والدنيا في مناطق العوالق جميعها بما فيها منطقة العوالق السفلى (باكازم) موضوع حديثنا، وخاصة بلدتي أحور والمحفد توجد أسر ذات جذور لها تاريخ في نشر الدعوة الإسلامية، ورفع مستوى الوعي الديني ومنهم أئمة وخطباء مساجد وأهل حكمة ودعاة دين معروفون، وشهرتهم ذائعة الصيت تتخطى حدود الوطن، كما هو الحال في بقية مناطق ومديريات محافظة شبوة.

-5 من المعروف أن الأراضي المقدسة في مكة والمدينة، تعتبر بعيدة عن بلاد العوالق في ظل صعوبة المواصلات آنذاك عند تأليف الكتاب وقبله، أي قبل حوالي 9 عقود من الزمن. وقد كان المسلمون يسافرون إليها إما مشياً على الأقدام أو بركوب الإبل لأداء الحج والعمرة من مختلف مناطق اليمن، وكان ذلك يستغرق منهم وقتاً طويلاً ويتجشمون عناء السفر ويتحملون الأعباء والمشاق في سبيل أدائهم فريضة الحج ومناسك العمرة، إيماناً منهم بالله وطاعته، وحباً لرسوله و الاقتداء بسنته. إذن فكيف لأقوام لا يعرفون الإسلام ولا النبي محمد صلى الله عليه وسلم أن يتجشموا عناء السفر في سبيل تأدية فريضة الحج أو أداء العمرة وتحمل كل تلك المشاق للوصول إلى المقدسات الإسلامية وزيارة قبر الرسول محمد صلى الله عليه وسلم.

-6 إذا رجعنا إلى كثير من الكتب والمراجع والمسودات، سنجد كثيراً من الأشعار والقصائد لأبناء العوالق وأبناء شبوة عامة دائما ما تبدأ بالبسملة (بسم الله) وتختتم بالصلاة على النبي. وهذه حقيقة مؤكدة لا يستطيع أن يجادل فيها أحد وذلك منذ حقبة طويلة من الزمن.

لذلك فكل الدلائل المشار إليها آنفاً، تؤيد وتؤكد ما ذهبت إليه من نفي لذلك النص الذي لا يمت إلى الحقيقة بأي صلة على الإطلاق، وبناء على ذلك فأنا أثق ثقة مطلقة أنه لو كان المؤلف مازال حياً إلى يومنا هذا، لقدم اعتذاراً رسمياً وكتابياً عما بدر منه من وصف غير منطقي لهؤلاء القوم بهذا الصدد المشار إليه آنفاً.

أعزائي القراء الكرام، ألتمس منكم العذر عن أي سهو أو تقصير بدر مني، فالكمال لله وحده، وأرجو من الله أن نكون قد وفقنا إلى ما أردنا من الصواب، وصولاً إلى كشف الغشاوة والضباب، مبتغين بذلك الأجر والثواب.

* مدير عام الإعلام والعلاقات العامة بمحافظة شبوة

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى