مانهاتن الصحراء (3)

> ريم عبدالغني:

>
هل سبق لكم أن شاهدتم بزوغ فجر حضرموت الرائع؟ سأرسمه لكم بكلمات الباحث الفرنسي رونالد ليوكوك :«تشرق الشمس من وراء الخط الطويل للرؤوس الصخرية ، يجلو ضياء الفجر قمم البيوت ومن بعدها أشجار النخيل والبساتين الممتدة في الأسفل ، بينما يتعالى آذان الفجر من المآذن العديدة، تردد صداه مرتفعات الوادي في مختلف أرجائه، ويستفيق السكان ،يخرجون من بيوتهم للوضوء وتأدية صلاة الفجر في الهواء الطلق .

ينشر الضياء أشعته على الأرض، فتخرج المرتفعات والجروف الصخرية من الظلام لتصبغها أشعة الصباح باللون الأرجواني ، ويتسلل إلى أعماق المرء شعور بأزلية هذه الأرض التي تمتد جذورها في أعماق التاريخ إلى عصور ما قبل الإسلام، تجدد نفسها باستمرار دون أن تتبدل أو تتغير على مر الأزمان والدهور ».

للحلقة الثالثة نتحدث عن مدينة شبام في حضرموت ، وهل أستطيع أن أكتب عن شبام دون أن يغمرني الحنين و يراودني الشوق لكل ما فيها ، وجوه أهلها، طرقاتها ،مبانيها ، أذان المساجدها يخترق هدوءها الذي يحملك خارج العالم؟

وشبام بالمناسبة اسم لعدة مدن وقرى في اليمن، منها شبام كوكبان (أقيان) قرب صنعاء وشبام حراز وشبام برع ،ومنها -موضوع حديثنا- «شبام حضرموت».

ولشبام حضرموت نكهتها الخاصة ، فرغم أنها تقع و مدينتي سيئون وتريم في واد واحد، لكنها تتفرد بتقاليدها المختلفة ، و في دراسة طريفة له، يذكر الأستاذ (جعفر محمد السقاف) أن أهل شبام مشهورون بالعقل الراجح والتجاري ،و بحلهم الخلافات دون اللجوء إلى المحاكم ، وأن والد العلامة القاضي علي عبد الرحيم باكثير (المتوفى في القرن الـ 11 هجري)، لم يصدر حكماً طوال مدة السنتين وخمسة الشهور ،التي تولى الحكم خلالها في محكمة شبام الشرعية ، إلا في قضيتين فقط.

و لكي تعرف الشبامين، اسمع قول الشاعر (عبد الله بن إبراهيم بن يحيى):

لهم فراسة فوقها رزانة *** ويوزنون الغيث في مزانه

وكل شيء له عندهم وزانه *** حتى الطيور الفارة والهرار

و مع أنه قد يقضي في المهجر وقتاً طويلاً ، فقلما يتزوج الرجل الشبامي من أجنبية ، فهو يصر دوماً على الاقتران بامرأة شبامية ، تحمل عادة أحد الألقاب المتوارثة، بحسب طبقتها الاجتماعية ، وهي (سعادة ، جوهرة ، حارير ، براكه) .

عرف عن عقلاء شبام رصد رؤية الأهلة وكتابة جداول مقارنة الشهور العربية بالميلادية ، ومقارنة التاريخ الهجري المعتمد على التوقيت القمري بالتاريخ الميلادي المعتمد على التوقيت الشمسي ،و قد استبدلوا بعض أسماء النجوم العربية بأسماء محلية حضرمية لسهولة دلالاتها لدى الفلاحين الذين يتّبعونها في مواعيد البذور والحصاد ونزول الأمطار وهبوب الرياح واشتداد البرد والحرّ، ويجعلونها بدايات ونهايات لفصول السنة الأربعة ،و يُقال أن العالم الشبامي عبدالله عبد الرحمن لعجم لصقع -وهو من أبناء القرن السابع الهجري - أول من أحدث هذا التغيير في أسماء النجوم .

في بعض الأبيات الشعرية المنسوبة إلى سعد بامدحج السويني تعبير عن اهتمام الشباميين بتأثير الأنجم على حياتهم ، كنجم «سهيل» الذي تأتي معه الأعاصير:

ما تسمع الداعي من المناكي *** سهيل أبو السروات والغداوي

و في بيت آخر ينصح الشاعر المزارعين بالتبكير في الزراعة لتسلم من الآفات :

شتاك في البلدة وبرك الحوت *** والصيف في الزبرة إذا تبا القوت

ومن النجوم الشبامية الثمانية و العشرين المشهورة : حوت - نطح - بطين - ثريا - بركان - مرزم - نعائم.

ختاماً، لأنهم فنانون بالفطرة ، و بالحس المرهف ذاته الذي شكلوا به عمارتهم الرائعة، تذوق الحضارمة بقية الفنون و أبدعوا فيها، و قائمة الفنانين من ملحنين و مطربين كبار جادت بهم حضرموت ، بلاد «الدان»، أطول من أن أوردها هنا، وطالما أعجبتني الأهازيج المختلفة التي يرددونها مع كل نشاط يقومون به، و رقصة (الشبواني) الشعبية التي يؤدونها عادة في احتفالات الأعراس ، وشاعرهم يقول:

شـبام بألحـان الحضـارة دايم إتغِّني ** وبالغناء معـها تـرد سـيئون والغَّناء

فنون ومغاني ** وكـل حِرفـه لهـا فـن بـه يغنون

[email protected]

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى