وأما الزَبَدُ فيذهب جُفاء

> ريم عبدالغني:

>
لا يرددون وراء حمورابي «العين بالعين والسن بالسن»، يتعاملون مع المحيط بمقاييسهم لا بمقاييسه، وفي القرآن الكريم «كلٌّ يعمل على شاكلته».

لا تخدعنك صلابتهم وملامحهم القوية، فهم أيضاً يتألمون وربما أكثر من غيرهم، لكنهم يقهرون آلامهم، ويروضون ردود أفعالهم السريعة، ولا يدعون المصاعب تهزمهم، ولا يتخلون عن مبادئهم، حتماً يمرون بلحظات صعبة، وقد يضعفون أحيانا، لكنهم غالباً ما يموتون واقفين كأشجار الصفصاف.. وتبقى أعمالهم الكبيرة ?{?أما الزبد فيذهب جُفاءً?}?.

أنا لا أتكلم عن أنبياء أو قديسين، إنما عن بشر عاديين مثلنا، لم اعرف منهم الكثيرين.. لكن القليلين الذين عرفتهم (كباراً) أثروا بي كثيراً.... فالحياة قربهم تعلّمك كيف تهذّب انفعالاتك وتسمو برؤيتك، والتعامل معهم يُشعرك بالأمان، فكبير النفس يحتوي الآخرين، ويقدر عطاءاتهم، ولا يخشى أن تطول قاماتهم بجوار قامته العملاقة، ولا يستغل لحظات ضعفهم، ولا يتخلى عنهم عند الحاجة، ويسامح مهما أوذي فلا ينحدر أبداً إلى انتقام.

ميز الله البشر بحسب سمو أرواحهم فوق الهياكل العظمية المكسوة باللحم .. خلقهم درجات، يعلو من يعلو فوق التفاصيل ويترفع عن السفاسف:

وتعظم في عين الصغير صغارُها ***وتصغر في عين العظيم العظائمُ

يتخطى العوائق ولا تشغله الفواني، ولسان حاله يردد مع المتنبي:

أنام ملء جفوني عن شواردها *** ويسهر الخلق جرّاها ويختصمُ

و(الكبير) يرى إلى مدى أبعد، إذ أنه يفهم ذاته ويعرف ماذا يريد، و«من عرف نفسه عرف ربه».. فهو يميز الحق من الباطل..لا يكذب ولا يخدع ضميره، ولا يفعل سراً ما يخجله علناً، ولا تسلبه توازنه الإغراءات، ويشحن نفسه إيمانا بها لأن الإنسان لا يحصل على ما يستحق بل على ما يعتقد أنه يستحق.

ورغم أن من حوله لا يفهمونه عادةً إلا متأخرين، لكنه يحسم خياراته بحسب رؤاه، لأن الإصابة ليست دائماً في جانب الإجماع فالأغلبية ليست حجة قاطعة، ولا يؤمن بفلسفة «عصفور في اليد خير من عشرة على الشجرة» فالمهم هو (العصفور) الذي يريد وسيّان إن طارت بقية العصافير أو بقيت.

كيف نكون كباراً؟ معظمه جينات تخلق مع الإنسان وبعضه تربية ووعي و....قرار وتدريب. أن تكون كبيراً، أمر لا علاقة له بمال أو بمعطيات خارجية، هو سحر كامن في النفس يُلهمك القرار الأفضل في اللحظة المناسبة،و قد يكون الفرق بين الصغير والكبير لحظات قليلة نقضيها مع من يحتاجوننا، أو دريهمات ننفقها لإسعاد من لا نعرف، أو كلمات طيبة نجبر بها خواطر من لا غاية لنا في إرضائهم، أو اختيار كلمات ألطف للتعبير عن ذات المعنى فلا نجرح من يسمعنا، أو لمسة حانية نمنحها ونحن بأمس الحاجة إلى مثلها.

والكبير غنيٌ، والغنى غنى النفس، لا يأبه بالقشور،«يرى المعنى وليس المبنى»، يبحث دائماً عن غذاء الروح، مُدركاً -والقول لمولانا جلال الدين الرومي- أن «غذاء الفرس ليس غذاءً للفارس»، ويزداد تواضعاً كلما ازداد علماً ورفعة :

ملأى السنابل تنحني بتواضع***والفارغات رؤوسهن شوامخ

يهب دون مقابل، بل وينسى ما وهب، ولا ينتظر جزاءً ولا شكورا :

ازرع جميلاً ولو في غير موضعه***فلا يضيع جميل حيثما زُرع

و لأن مال الدنيا يبقى في الدنيا، فهو لا يبيع نفسه به، موقناً أنّه رابح مهما فدحت خسائره ما دام لا يُقامر بمبادئه ولا قيمه، وكم يكشف المال عيوبا غطاها الزمن، وكم كباراً على إغرائه صغروا، وكم من أثرياء لا يملكون إلا دراهمهم.

لكي تبقى كبيراً وقوياً، كن حكيماً في خياراتك، فكلّ خيار مهما صغر يرفع كفّة الميزان دون الأخرى، هي شعرة تفصل القاع عن القمة، وتقلب الأبيض أسود، إذا كنت لست مقتنعاً، فاقرأ معي هذه الأبيات للإمام شرف الدين إسماعيل بن المقري من القرن العاشر الهجري، يمجد فيها عظمة (الكبار)،ثم اقرأ الأبيات العبقرية ذاتها، كلّ بيت من آخره إلى أوله مقلوباً، لتجده يصف وضاعة الصغار :

طلبــوا الـذي نالـوا فـما مُنـعوا ***رُفعت فمـا حُطـت لهـم رُتــبُ

وهـبــوا ومــا منَّـت لهــم خلــق ***سَلِمــوا فما أودى بهم عطـبُ

جلبوا الذي يرضـى فما كسـدوا ***حمدت لهم شيمٌ ومـا كسـبوا

غضبوا ومـا سـاءت لهـم خلـقٌ *** ستـروا فما هتكت لهم حـجب

ذهبــوا ومــا يمضـي لهــم أثــرُ ***رحمـوا فمــا حـلت بهم نــوب

حسـب لهـم تركوا فمـا سقطـوا***كَلِمٌٌ لهـم صـدقـت فمـا كـذبـوا

عصب بهـم نصرت فمـا خذلـوا *** شرفوا فـلا يدنو لهـم حســبُ

[email protected]

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى