فرحة العود في طرب عبّود

> «الايام» جمال السيد :

> في زمن الفضائيات هذا نرى الأمم تتسابق إلى عرض معارفها وفنونها وما لديها من جمال. وهذا لبنان العربي يعرض وجهه الحضاري فناً وجمالاً ومعرفة وجهاداً فأرغم العالم على الاعتراف حتى بجهاده. وهذه فضائيتنا اليتيمة تعرض أغنيتنا ترفل في العشوائية والبدائية: موشحات عتيقة على ضرب واحد لم تمسسها يد التغيير من ألف عام, وأغان يابسة المعاني، ضيقة الأفق ، خشنة النغم ؛ ما يحمل الآخر على التحقق مما يُحْشى به من أن العرب جمّالة قساة القلوب وضعاف العقول.

غدت الموسيقى اليوم عنواناً للحضارة ووسيلة علاج ناجعة, ولم تعد ثَعْبَنَةً يحتاج متعاطيها للرَّقي كما ذهب السيد العطاس صاحب «رقية المصاب بالعود والرباب».. وكانت الغلبة لبدرية العبدلي صاحب فصل الخطاب. وبعد اختبار الأثر لدور الأغنية في تعبئة الجماهير ضد المستعمر قال ابن هادي سبيت: «آية العود فاقت آية البنسلين». وكانت المفارقة أن يقتحم أولاد السادة ميدان الطرب فيبدعون ويصبحون في مضماره أعلاماً، ذاك البلفقيه يرد بالدان بعد أن كان ترديده مقصوراً على باسعيدة، وهذا عبود الخواجه يترنم بالدان اللحجي، ولنا فيه قدح أعلى.

هذه هي الأغنية اللحجية المتدثرة بمعاني المحبة، والمكللة بالورود والرياحين، والمتطيبة بالبخور واللادن، و«العنبر الأصلي في ساحلي مجدوح»، الجالسة ألحانها على رقصات بديعة صقلتها السنون، يتدفق منها الفرح اللحجي تدفقاً، وتنثال منها المحبة شلالات بيضاء وميازيب لا يعتورها عيب. وهذا السيد الوهطي قد أطلق صوته في الأثير فقيّد المعنى الشارد واللحن الآبد ووضعهما في حنايا السلك نغماً خالصاً. ومَن أبدع من عبود في العزف والأداء، إنه يؤدي الأغنية اليمنية بكل ألوانها باقتدار عجيب, وليس هناك من يدانيه من مطربينا في اليمن والخليج روعة وإطراباً. إنه مطرب كل الجزيرة ولا أحاشي من الأقطار من أحدِ.

يمر عبود بالخيامية بمعية المطربة المغربية (فدوى) ويدندنا - على ريشته- بما أضيع اليوم الذي مرّ بي، فتشهد السحَر قد استفاق مرحاً منادياً هذا اللحجي لمناغاة الوتر. ما أجملها مناغاة, تفعل فيك فعلها فتظفر بدليل عن واحدية الحضارة اليمنية الفرعونية..

ويدخل على الموشح الصنعاني من اللازمة فيزيده حلاوة وطلاوة؛ ويطوف بأدواره ويخرج وقد صارت خرجته أبهى وأشهى وأرق؛ فهل سمعته وهو يغني من شعر الآنسي الصنعاني:

يا غصن لابس قميص أخضر مشجّر وطاس لا زال عنـك النما

يا مُبتَسِم عن عقيـق أحمر وأفصـاص ماس من صنع رب السما

إنّ عظمة هذا المطرب تقع في قدرته العجيبة على أداء كل ألوان الغناء اليمني, على تنوعها واختلافها, بإتقان وبإطراب لا تجده عند سواه. لذلك وجدت اللحجيين والصناعنة واليوافع والحضارمة وأهل الحديدة وأهل الجزيرة يفسحون له في صدور مخادرهم ومحافلهم ومجالسهم. ولقد استحق إعجاب ومديح كبار الشعراء كالسيد المحضار والشيخ العمودي، وكبار المطربين كالموسيقار الشريعي ومحمد عبده والمرشدي ومحمد سعد عبدالله وغيرهم.

وحين يدخل المحفل الحضرمي يحل فيه هذا السقّاف اللحجي إحلال متمكّن فتعجّى على الحضارمة واحتسبوه منهم. استطابوا طربه وتزوّدوا منه جملة وتفاريق ولم يجرءوا على ترديد مقالة أهل المشرق في العقد الفريد, بل هو ذكرهم بالحقيقة الغائبة.

ببرنامج «القاهرة اليوم» غنى عبود في حضرة الشيخ الدكتور محمد بن عبود العمودي والموسيقار عمّار الشريعي، فأطرب الشيخ الشاعر، وانتزع إعجاب الموسيقار الساحر، حدّ أن سلّمه الشريعي عوده ليعزف بدلاً عنه للمطربة آمال ماهر أغنية لأم كلثوم. عزف عبود فسرت في الحاضرين بهجة العود، واستحال العود صوتاً ورائحة، وتجمعت الحواس في حلولية عذبة فرح فيها العود من طرب عبود. ثم رَدَّ (بن زين) بالدان من كلمات عمّه الشاعر البديع العمودي فأمتع وأشبع، وحُقَّ فيه قول الشيخ المُلهَم :

كل شي فيك زين، وانت من الزين أحلى

يخضع الزيـن لك ياسيـد كل المزايـين

خُذ عيـوني ولا حد شي على الزين يغلا

أنت أغلى من الغـالي وسيـد المحبـين

أما الدان اللحجي فهذا سيده الأوحد بلا منازع؛ فمن لم يطرب وهو يغني من شعر رضوان محلتي:

كم ضيّع الحب هذا من فتى مُعتَد * شباب ما له عدد * لما أملهم تبدّد

لكنّ بعدك أنا والله ما با ارتد * رضيت ولاّ حَرَد * قفاك وازين مِكْرَد

ومن أبلغ من الخواجة لإيصال شكيّة (المحلتي) لأهل الشأن:

سكنت قلبي حبيبي دونما استئذان/ واصبح فؤادي مكان/ لنار تشعل، لبركان

شتّان بين المحبة والجفا شتان / بين السموّ والهـوان / ياذي تقولون سيّـان

الحب غذا للمشاعر يعمر الوجدان / يعطي المعاني كيان/ ويجعـل المرء إنسان

وحين يتناول هذا المطرب أغنية لغيره فإنها تخرج من حنجرته الحالية لا تقلّ روعة عن أداء صاحبها الأول. لقد سمعته يغني رائعة الأستاذ أحمد الجابري (على امسيري) فلقيت اللحن المرشدي فرحاً في ثوب عرس جميل، وعجبت كيف أضفى على اللحن تلك النكهة البدوية التي كانت غائبة. وخاصة في جملة: “يامرحبا بش ويهلش”.

في شجى صوته سر حلاوة المفردة ووضوحها. تسمع منه الأغنية -وكنت قد سمعتها قبله عشرات المرات- فتستغرب كيف لم تنتبه لجمال صورها ومعانيها قبلاً. وهو فوق ذلك يكثر من التبصر في المعنى فلا يؤدي الأغنية إلا بعد مراجعة وتمحيص مثال غنائه من نظم القمندان : «..كيه بس سكّن / يا مخبأ في الدبداب كف العناد» و «في الحسيني مست (خِيرة) جماعة واصحاب» وليس (خبرة)، وغير ذلك كثير.

ومن جديده أداء مقاطع غنائية تجاهلها من سبقوه مثل ختام قصيدة (ليه يازين ما شان) للشاعر عبدالله هادي سبيت وهي من الغنائيات التي أحسن سبيت ختامها:

بين حلو السمر ياذا وحلو المقايل/ رد يا صاحب الدان

سيلنا قد دفر حطّوب باطن وقابل / ليلنا ليـل مـروان

ميلنا قد شمر شَلّوا الدوَل والقبايل/ بانصيّـف بلبنـان

يتنقل عبود بين المقامات الموسيقية تنقل العالم الخبير ، ويخطو على حرف الوتر خطو الواثق ، فيأتي بما يبهر الحس ويسعد الوجدان. يسير على سلالم النغم بحس سليم، ويتنقل من النهاوند إلى السيكا إلى الحسيني في روعة وإطراب، وتعجب كيف يعاود الرسو على مقام البداية من دون نشاز ولا قلق ولا اضطراب! إنه يحصد بريشته حقول المجد فيزرع المفاخر في سوح الفرح نغماً خالصاً من (تبن)، وادي المعرفة الأول.

ولعل أبرز ما يميز هذا المطرب اللحجي هو حسن خلقه، وتواضعه ومحبته للناس وإحساسه بهم وجعاً وسروراً، واحترامه لنفسه ولفنه، وتقديره لأهل الكار. ولقد سُئلَ المطرب الكبير وديع الصافي (أبو كلثوم) عن نسبة الأخلاق في الفنان فأجاب:«تسعون في المئة أخلاق والباقي فن».

أطلقوا هذا الحسّون ليغرد بالمحبة فهو رسولنا إلى كل الدنيا.

لا تنتفوا ريشه الملون الجميل الذي يملأ العين والخاطر, ولا تكسروا ريشته البديعة النادرة, ولا تمنعوا صوته العذب الذي يملأ القلب والوجدان لتمتلئ سمانا محبة وموسيقى وسلاماً!

محاضر الأدب الإنجليزي - جامعة عدن

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى