التّكْريتي والمَنْجَوِي..

> فضل النقيب:

> في «هدية الزمن في أخبار ملوك لحج وعدن» طائفة من الأخبار الشيقة المنتقاة من حدائق التاريخ وأمهات المراجع ذات الصلة، وما حفظته ذاكرة المؤلف ووعته عن أهله وأصحابه وشيوخه، ومؤلف الكتاب أحمد فضل «القمندان» ينهج نَهْج الجاحظ في ترك العنان للقلم للخروج من واقعة إلى حكاية إلى ترجمة حياة، ومن شعر إلى نثر إلى سجع إلى نقاش، وهو في كل ذلك حريص كل الحرص على الاحتفاظ بموازين الكتابة العادلة دون خسران، وهذا أحد أهم شروط الإجادة في الكتابة، فلا خير يُنتظر من كاتب تشتم روائح انحيازه قبل أن تكتمل صفحة مما كتب، وقد أولى «القمندان» الأدباء والشعراء والنشادين اهتماماً خاصاً قل أن تجده في الكتب المماثلة، ويمكن تفسير ذلك بقول المتنبي «لهوى النفس سريرةٌ لا تُعلم» وسريرة كاتبنا معلومة، وهي أنه ينتمي في ذروة هواه إلى هؤلاء، فهو الشاعر المجيد المتأنق القابض على عواطف الناس من الخاصة إلى العامة، وزاد إبداعه ألقاً بالألحان والغناء المصاحب للرقص، لذلك فإن إبداعه يتعتق مع مرور الزمن ويزداد ثراءً وبهاءً وتعلو قيمته كما هو شأن مؤلَّفه الذي نحن بصدده، حيث باعد الزمن بيننا وبين مراحل من تاريخ وطننا، فنحن نعود إليها في صفحاته فاغري الأفواه كمن يعثر على كنز لم يكن يتوقعه وما كان له في خاطر أو بال.

اغتنم القمندان إطلالته على عدن ليعرض لنا قصيدة الشاعر التكريتي العدني التي امتدح بها المنجوي صاحب «مرباط» وقال فيها بعض الأدباء «كل الشعر يَدرُس» (أي يفنى) إلا ما كان من قصيدة التكريتي.

ومن عجب أن هذا الشاعر المُجيد، العذب اللغة، الثري الموسيقى، المديد النَّفَس، لاتوجد له ترجمة أو قصائد أخرى، ومنها، أي «القصيدة»:

عُجْ برسم الدار فالطَّلَلِ ** فالكثيب الفرد فالأثلِ

فبمأوى الشَّادن الغَزِلِ ** بين ظل الضال والجبل

فإذا ما بانَ بانُ قُبا ** وبلغت الرمل والكُثُبا

ناد أهل الربع واحَرَبا ** واسبل العبرات ثم سلِ

وابلا في إثر الدموع دما ** هبْ كأن الدمع قد عُدما

واندب الغيد الدُّما نَدما ** واقفُ إثر الظّعن والإبل

آه لو أدركت بَيْنَهُمُ ** كنت يوم البين بينهمُ

ليت شعري الآن أين همُ ** ربَّ سارٍ ضل في السُّبِلِ

ويمضي التكريتي العدني المجهول على هذا النظم الشائق المرتب المُمَوسق،ْ كأنه سجادة فارسية من الحرير لا يزيدها الزمن والاستخدام إلا تجدداً:

كيف أثني عنهمُ طمعي ** وهمُ في خاطري ومعي

كفّ عني اللوم لست أعي ** ففؤادي عنك في شُغُل

ها أنا في الربع بَعدهم ** أشتكي وجدي وبُعدَهمُ

أسأل الأيام وعدهمُ ** وأقضّي الدهر بالأمل

فدموع العين تُنجدُني ** وحمامُ الأيك تُسعدني

فهي تدنيني وتبعدني ** بالبكا طولا وبالجذل

خلفوني في الرُّسوم ضحى ** أتحسى الدمع مُصطبِحا

كل سكران وعى وصحا ** وأنا كالشارب الثمل

وقبل القمندان بمئات السنين لم يستطع بامخرمة صاحب كتاب «تاريخ ثغر عدن» مقاومة سحر هذه القصيدة فأوردها كاملة مع اعتذاره للقارئ عن الإطالة، وهاهو القمندان يحذو حذوه فيوردها كاملة، وفي الرواية أن التكريتي غرق له مركب وكانت تجارته كلها فيه فلما امتدح «المنجوي» صاحب مرباط أجازه بمركب وشحنته، وكان قد وصفه بقوله «هو تاج والملوك حذا» فلما سمع ملك اليمن طغنكين ابن أيوب بذلك أمر بإحضار التكريتي وسأله عن ذلك، فقال: أنا قلت حَذا بالفتح ولم أقل حِذا بالكسر، فاستحسن منه هذا التخريج وأطلقه، وكان المنجوي قد سمع بالخبر فأرسل للشاعر حمولة مركب آخر عوناً له.. فتأمل!

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى