عشقٌ ووجدٌ.. وشعراء في حلم يقظة

> «الأيام» علي محمد يحيى:

> كنت قد أبحرت ذات يوم بصحبة شعراء قدماء ومعاصرين من كل بلاد العرب.. أبحرت معهم في غزلهم بعيون من افتتنوا بهن، فكانت مساجلة شعرية بينهم نشرت وقائعها في إحدى الصحف اليومية، تسابق فيها الشعراء في وصف جمال عيون فاتناتهم من حَوَر وطرْف ومُقَل ولِحاظ وأحداق و..و... فما كان أروع وصفهم، وقد أخذني ذلك الإبحار إلى حلم يقظة جديد استحضرت خلاله أولئك الشعراء وزدت عليهم بعضا آخر لأستنطقهم بما تخبئه لواعجهم وتكنه أفئدتهم من غرام وهيام، وإفصاحهم عن فلسفتهم في مفاهيم العشق والحب، فكان هذا الحوار الموثق..

أبدأ من عندك أبا الطيب: قد علم الناس جميعا عنك كثيرا، ونلت إطراءهم، فماذا تقول فيمن يشكو العشق والصبابة؟

يقول المتنبي:

وما كل من يهوى يعفّ إذا خلا

عفافي ويرضى الحب والخيل تلتقي

قلت: أراك تنصح بالعفة؟

المتنبي:

كل جريح ترجى سلامته

إلا فؤادا رمته عيناها

قلت: وماذا عنيت بذلك؟

المتنبي:

يا عادل العاشقين دعك من فئة

أضلّها الله كيف ترشدها

قلت: ويحك أبا مُحسد.. والله قد هلك الشاكي!!

أردف المتنبي بقوله:

أرق على أرق ومثلي يأرق

وجوى يزيد وعبرة تترقق

جهد الصبابة أن تكون كما أرى

عينٌ مسهدةٌ وقلب يخفق

حينها رأيت في ابن داود رغبته في استباق ضيوفي في الحديث عن الحب والعفة، وهو الذي له في مسائل الحب صولات وجولات غير كتابه الذي صنف فيه العشق شعرا، يرد فيه على أسئلة العشاق والمحبين، أسماه (كتاب الزهرة).. فسألته على لسان الشاعر:

يا ابن داؤود يا فقيه العراق

أفتنا في قواتل الأحداق

هل عليها بما أتت من جناح

أم حلال لها دم العشاق

ابن داود: عندي جواب مسائل العشاق

فاسمعه من قرح الحشا مشتاق

لما سألت عن الهوى هيّجْتني

وأرقت دمعاً لم يكن بمراق

إن كان معشوق يعذب عاشقا

كان المُعذَّب أنعم العشاق

يا له من جواب (دراماتيكي) ذكرني بصوت فريد الأطرش وهو يصدح بأغنيته: والحب من غير أمل أسمى معاني الغرام.. أو قول الشاعر:

مازلت تتبع نظرة في نظرة

في إثر كل مليحة ومليح

وتظن ذاك دواء جرحك وهو

في التحقيق تجريح على تجريح

فذبحت طرفك باللحاظ وبالبكاء

فالقلب منك ذبيح أي ذبيح

ساعتها استل ابن شداد العبسي سيفه من غمده وضرب به على طاولة الحوار فسألته: وما عندك أبا الفوارس؟

عنترة: ولولا أنني أخلو بنفسي

وأطفئ بالدموع جوى غرامي

لـمُتُّ أسى وكم أشكو لأني

أغار عليك يا بدر التمام

قلت: ما أروع ما تقول يا فارس الفرسان، فزدنا شيئا في العفه!!

عنترة: وأغض طرفي ما بدت لي جارتي

حتى يواري جارتي مأواها

محمد الشرفي ببذلته الإفرنجية وقبعته الأسكتلندية المتميزة التي يعتمرها، هو أكثر الشعراء اليمنيين المعاصرين تميزا بعفته في عشقه للمرأة، وأكثرهم حبا لها.. كان في صمت عميق مع نفسه دون أن يخلو محيّاه من ابتسامته الرقيقة التي لا تفارقه.. سألته: أنت من غنى للمرأة والحب وأنت القائل:

أم لبنى وأنتِ من قبل لبنى

أمُّ حبي وأم ما أتمنى

ولك الحب أولا وأخيرا

وإليك انتهى وفيك اطمأنّا

محمد الشرفي: نعم ولكن لو لم أكن أعلم أنك تعلم قدر حبي ونوع عشقي للمرأة لقلت لك اقرأ قصيدتي (أصداء الحب) أو قصيدتي (لبنى) التي ذكرت منها البيتين الأولين، ولا أمانع أن أُسمع صحبنا ضيوفك الكرام في هذا الملتقى قولي:

وأحبك لكن دون حدود

وأحبك فوق حسابات الناس

وفوق الحب المعهود

وأحبك ألف سؤال متقدٍ

فوق شفاه الوجد

وألف جواب منقود

وأحبكِ.. ترتحلين

بسحر نساء الدنيا في أعماقي

وتظلين السحر المنشود.

قلت: وماذا تقول في العفة، صراحة أبا لبنى؟

الشرفي: اقرأ كل مجموعاتي الشعرية التي خصصت بها المرأة، ستجد أن العفة فيها كلها.

لطفي جعفر أمان أراه ممسكا بإصدار عن وزارة الثقافة والسياحة بعنوان (الأعمال الشعرية الكاملة).. ويبدو أنه ممتعض بعض الشيء لأن الإصدار لم يكن كاملا سوى الجزء الأول من أعماله، وكأنه يقول متى إذن الأجزاء الأخرى؟ فحاولت أن أخفف من وطأة الشرود عنده والألم الذي يكتنفه والحسرة فقلت: أبا جهاد لك الله من سوء الصنيع عند القائمين على الوفاء.. فانسَ الألم والضيم والحسرة وأطلعنا على ما قلت عن الحب والعشق وأنت الذي وُصفت بالشاعر العابد للحب، ابتسم وكأنه يقول يا لك من خبيث ودود.. ثم استوى على مقعده قائلا: اسمعوا معشر الأصحاب وأنتم على كراسي الاعتراف مع هذا المستفز:

لطفي: يا حبيبا في فؤادي سكنا

وفؤادي في الهوى ما سكنا

من جنى في الحب؟ أنتَ أم أنا؟

أم كلانا.. ليت شعري من جنى؟

كانت الدنيا وما فيها لنا

حلماً يندي على الروح منى

كل شيء، كان فيها حسنا

قلت: زد ولا تبخل يا عابد الحب!!

لطفي:

الموت لي إن أنت عن قلبي تخطَّفك الرواح

سأغتال الدجى.. وأريق عاصفة الرياح

سأعصف بالقلاع.. أدك شامخها بطاح

بقلبي.. في دمي تحيين.. في أعماق ذاتي

هاتي يديك.. توسديني.. أنت لي حتى الممات

قلت: صدقت فأنت القائل: أنت ولا أحد سواك!

وفيما أنا أحاول استنطاقه في قضايا أخرى عن الحب والعشق، إذا بقيس بن الملوح يرفع يده يلوح بها نحوي.

قلت: مرحبا بك ابن الملوح.. أيها المجنون، فقد أفنيت عمرك تطلب ليلى.. وقد فارقك الرقاد ولازمك السهاد.. ما الخطب؟ وماذا جرى لك مع ليلاك؟

قيس: أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى

فصادف قلبا خاليا فتمكنا

قلت: ولكنك لم تتمكن من لقياها، فهل فعلت شيئاً؟

قيس: أمر على الديار ديار ليلى

أقبل ذا الجدار وذا الجدارا

وما حب الديار شغفن قلبي

ولكن حب من سكن الديارا

قلت: عرفناك متخاذلا بعض الشيء حتى حجبوك عنها.

قيس: أقلّب طرفي في السماء لعله

يوافق طرفي طرفها حين تنظر

قلت: صدق من قال عنك إنك مجنون.. التفت بعدها نحو ضيوفي فوجدت أن منهم من أسره التعب والنعاس في انتظار دوره، فإذا بأحدهم يصيح:

ألا أيها الركب النيام ألا هبّوا

أسائلكم هل يقتل الرجل الحبُّ

قلت: من أنت يا هذا؟

قال: أنا جميل.. يسمونني جميل بثينة.. أبليت فيها دهراً بانتظار وعدها وأنا القائل:

يموت الهوى مني إذا ما لقيتها

ويحيا إذا فارقتها ويعود

قلت: إذاً أنت الذي يقولون عنك إنك مسحور؟

جميل: يقولون مسحور يجن بسحرها

وأقسم ما بي من جنون ولا سحر

ملحوظة: لأن ضيوفي كانوا كثراً فإني أستميح القارئ بأن أرجئ ما بقي من الحديث إلى الأسبوع القادم، فما يزال هناك أمير الشعراء شوقي وعبدالرحمن السقاف ومحمد سعيد جرادة وواحد من العذريين لا أذكر اسمه وصعلوك وابن شريف الرفاعي أحمد وعبدالله فاضل فارع والحامد وعبده غانم وعبدالله الفيصل وبشارة الخوري والأخطل.. فإلى الملتقى.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى