فوق «جب» «الحصن» (7)

> ريم عبدالغني:

>
الباب الخشبي القديم يفتح بصعوبة مصدراً صرير احتجاج، ندخل منه وقد انحنينا لقصره، الظلام دامس إلى حد الرعب، يشقّه -على استحياء- ضوء (ولاعة) عم محمد، صرخت بوجل وخفاش مسرع يصطدم بجبيني، تتعالى الضحكات، فأتجلّد وأرفع رأسي متظاهرة بالقوّة أتقدمهم في صعود الدرج الضيق .

لم تكن أم أحمد مخطئة حين حاولت أن تثنيني عن عزمي زيارة هذا المبنى الذي لم يدخله إنسان منذ أكثر من ثلاثين عاماً، لكن هل كنت لأضيّع فرصة رؤية بناء فريد كهذا من الداخل، وأتخيل كيف كانت الحياة فيه؟، عم محمد شجعني مبتسماً، ورافقني مستحسناً اهتمامي بماضٍ يحبّه.

التقطت صوراً كثيرة له من الخارج، يقولون إن عمره يتجاوز ثلاثمائة عام، بناءٌ حجريٌ مرتفع، نوافذه الضيّقة بالكاد تكفي لإدخال ماسورة البندقية وإطلاق النار على العدو، الذي يصعب عليه اصطياد خصمه عبر هذه الفتحات الصغيرة، و«الحصن»- كما يدعونه- كان مسكن العائلة الأول في قرية (امفرعة) في ريف أبين اليمن، ومعظم المساكن هنا كانت أقرب في تصميمها إلى القلاع العسكرية.

البناؤون غالباً ما كانوا يأتون من يافع، ومنهم عائلات توارثت هذه الحرفة، كعائلة (بن صلاح)، وأفرادها خبراء في بناء مثل هذه الحصون والقلاع، وبالمناسبة، فعملية البناء في دثينة تجسيد راق لروح التعاون بين الأهالي، ومن تقاليدها الطريفة، ذبح الذبائح في كل مرحلة من مراحل البناء، منذ البداية حين يرسم البنّاء مخطط المبنى على الأرض ويضع الحجر الأول، وحتى المراحل الأخيرة، كمرحلة (اللبان) وهو وضع الطين المعجون بالماء على أخشاب السقف المرصوصة، العمليّة التي غالباً ما تتم عقب صلاة الجمعة ليُشارك الجميع في تداول كرات الطين المعجون بالماء (الخلب) من يد إلى يد، حتى يصل إلى البنّاء الذي يقف على سطح المنزل فيطرحه على السطح إلى أن يغطيه بشكل كامل، يقومون بهذا العمل بمحبّة وفرح، وهم ينشدون بحماس أهازيج خاصة يتخللها تكراراً قولهم «يالبينوه..يا لبينوه» (من اللبنة وهي وحدة البناء بالطين)، ثم يحتفلون بإنجاز البناء بذبح الذبائح مرة أخرى.

و يبدو أن الناس في الريف يحلو لهم اغتنام أي فرصة ليذبحوا الذبائح ويأكلوها، فتجدهم يقدّمونها في الأعراس والأفراح كما في الأحزان والمآتم، عند مجيء ضيف أو عودة مسافر، وعند ولادة طفل أو ختانه أو في أسبوعه، والأرض حين تروى، أيضاً مناسبة تستحق الاحتفال، فتُنحر الذبيحة الأولى عند دخول الماء إليها، والثانية عند بدء مواسم البذار، وتُقدم الذبائح قرابين عند حصاد الذرة لحماية المحصول، وإذا انكسر المحراث الخشبي (السحب)«لا بد أن الشيطان قد اعترضه»، فيتركون العمل ولا يعاودونه إلا بعد ذبيحة أو قربان، وهكذا..

كانت قدماي تبحثان بحذر عن مواطئهما على الدرجات المكسورة للسلّم المتداعي الذي يتوسط الغرف الصغيرة المظلمة لأدوار الحصن الثلاثة، في الدور الأرضي وجدت غرفتين، الأولى واسعة للاستقبال تسمى «مقدم» أو«السوق»، والثانية صغيرة وعميقة بابها وطيء للغاية وتُخزّن فيها الحبوب وتسمى «ديمة» أو «قطب»، الدوران الأول والثاني مخصصان للنوم، وفي كل منهما غرفتي منامة، الكبيرة تدعى «المفرش»، والصغيرة «خلوة»، أما المطبخ أو «المخدم» فقد قيل لي إنه كان خارج البيت، داخل السور، بجانب الـ«جلب» (مستودع الأعلاف الكبير )، والـ «مربض» الخاص بالبقر والغنم، ليس بعيداً عن بئر (عماصير) المبنية بالحجارة منذ زمن لا يعرفه أحد، و(عماصير) سقت القرية كلها سنين طويلة، العمة شيخة ترى أن «الكفر» هم من حفره، وفي وعيها الشعبي البسيط «الكفر» هم الأقوام الذين عاشوا قبل الإسلام.

أخيرا.. النور والهواء، على سطح الحصن، يدعونه «الجب»، «الخلوة» هي غرفته الوحيدة والمخصصة لرب العائلة (و تسمى أيضاً «القفلة» ربما لأنها خاتمة البناء)، من هذا العلو يمكنني تأمل المشهد كاملاً، الطبيعة القاسية، السهل نصف الأجرد في هذا الوقت من العام، والذي ينقلب جنة خضراء في المواسم (مما جعله يُعرف طويلاً بـ«قاع امتجّار» أي: سهل التجار، فهو يجذبهم للمتاجرة بخيرات خصبه)، وجبال فحمان بصخورها الرمادية المخضرّة التي آوت بينها الثوار ضد الإنكليز أياماً وشهوراً. جالت عيوني فوق السطح الصغير حولي، تخيّلت جلسات السمر التي طالما عرفها سيّما في حر الصيف، كنت أبحث في كل شيء عن تفاصيل سمعتها ممن عاشوا أحلى أيام عمرهم بين حنايا هذا المكان.

فوق رؤوسنا قلعة القاهرة(النوبة)، تطل من عليائها على قرية (امفرعة)، هل دعيت (القاهرة) لقهرها الأعداء ببنائها الدائري المحكم المنيع؟ أم تشبّهاً بقلعة القاهرة في تعز؟ أو تيمناً بـ(أم الدنيا) قاهرة المعز؟، على الجبل المقابل، قلعة أخرى اسمها (المنقاش)، تطل على قرية (امقوز)، وعلى بعد مئات الأمتار منهما قلعة ثالثة تدعى (طير الهواء)، يتناسب اسمها وموقعها المحلّق في السماء، وكلها مواقع دفاع ومراقبة تعكس صورة الجو المشحون بالقلاقل والاضطرابات التي عاشتها أجيال متعاقبة في هذه المنطقة.

ما كان أقسى الحياة هنا، كثرة الحروب وقلّة الأمن أجبرتهم على هجر البراري الواسعة والحقول المزروعة، لينحشروا داخل هذا (الحصن)، القبر الكبير الذي لبى تصميمه حاجتهم للأمان وتجاهل كثيراً من حاجاتهم الإنسانية الأخرى، حياة صعبة وعنيفة، لكن من بقي منهم يقسم أنها كانت أجمل من أيامنا هذه، وأرحم من العنف المستتر لـ(المدنية)و(الحداثة)و(العولمة) و...

وإذا كنتُ قد استنفدتُ المساحة المخصصة لي للكلام اليوم، فإن حديثنا عن رحلتي إلى أبين اليمن لم ينته بعد، وسنختتمه إن شاء الله في العدد القادم..

[email protected]

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى