> «الأيام» د. عبده يحيى الدباني:

أجل كانت زحلة بليلين بينما كانت تعز بسماءين!! نسمع أحياناً في الجنوب من يقول إننا سلمنا عدن والمكلا وبلاد الجنوب كلها للشماليين يجولون فيها كيفما أرادوا أولم يسلموا هم أيضاً صنعاء وتعز والحديدة وغيرها ولنا أن نجول فيها كيف نريد؟ حقاً ما أعظم الوحدة وما أجلّها!! ولكنها بحاجة ملحة إلى دولة قوية تعاصرها وترتقي إلى مستواها وتعرف قدرها وتنشر العدل في ربوعها.

تعز.. وما أدراك ما تعز؟ قال فيها صديقي الشاعر مبارك سالمين فيما قال: تعز - هي:

شيخوخة العسكري،

وبهجة الفلاح ..

هكذا هي إذن، إنه شاعر يجيد بعبقرية تعريف الأشياء والأماكن شعراً، ويصوغ جملاً لمعان كنا نحس بها ولكن لا تسعفنا لغتنا في تجسيدها فهناك أشياء لا تدركها الصفة كما قال الجاحظ، ولكن الشعر يدركها كما قال أدونيس.

وهكذا رويداً رويداً هبطنا من سماء «تعز» إلى أرضها التي كانت قبل قليل سماء ثانية مقابلة، أو كأن سماء تعز المرصعة بالنجوم تقابل بحراً صافياً فتنعكس صورتها على صفحته.

وقبل منتصف الليل كنا قد عدنا إلى الفندق، لم يكن ذلك الفندق يليق بنا ضيوفاً أولاً، وأدباء ثانياً ولكن خيرها في غيرها ولتبحث لأخيك عن سبعين عذراً كما علمنا الإسلام.

لم أنم ليلتها إلا قليلاً لعلني أنكرت المكان ولعله أثر القات التعزي الذي لم أتعوده.. ذهبت بي العواجس كل مذهب وقلبت صفحات من كتاب العمر.. آه ما أمر الذكريات وما أحلاها! بيد أن ثمة ذكريات حلوة يبيت تذكرها مراً، وهناك ذكريات مرة يبيت تذكرها حلواً!

في صباح اليوم الثاني كانت القافلة في طريقها إلى زيارة بعض المواقع السياحية الأثرية، مررنا على حدائق الصالح لم تكن حدائق صالحة بعد، كانت في طور الإنشاء.. كل الروابي والجبال من حولنا كانت حدائق معلقة ومتألقة فهل نحن بحاجة ملحة إلى حدائق معلقة؟ في عدن يمكن أن تكون.

هتف صوت من جانبي هذا وادي الضباب.. ياله من واد خصيب! منذ الطفولة وأنا أسمع عنه من خلال أغنية الفنان المبدع أيوب طارش:

وادي الضباب

ماءك غزير سكاب

نصفك سيول

والنصف دمع لحباب

تذكرت ونحن نعانق الوادي أن أحد طلابي في الماجستير هو من أبناء هذا الوادي كما وصف لي هو، أجل إنه ابني وطالبي (أحمد محمد سعيد) فكأنما خلق للأدب دارساً ومتذوقاً وحافظاً.. سرعان ما أخذت جوالي لأتصل به، كان في عدن ساعتها، فرح باتصالي ولكوني أزور واديهم وتمنى لي رحلة ممتعة، أجد البعض يستغرب أحياناً لكوني أتصل بهذا أو ذاك من طلابي، أو أجالسه أو أن نصير أصدقاء ويرى في ذلك تواضعاً زائداً وربما خروجاً عما ينبغي أن يكون من حواجز مصطنعة بين الطالب والأستاذ في الجامعة، أما أنا وكثيرون من مثلي فإن الخط مفتوح بيننا نحن وطلابنا أو قل بعضهم الذين يقدرون هذه العلاقة ولا يستغلونها استغلالاً سيئاً أو يفهمونها فهماً قاصراً فلا أرى مبرراً للتكلف والتكبر وإقامة الحواجز الفارغة فكثيراً ما نفيد من طلابنا في مجالات الحياة المختلفة وحتى في مجال العلم والتخصص، فالكمال لله تعالى وحده والتواضع سر العظمة، وليست قيمة المرء في لقب الدكتور أو الأستاذ وغيرهما، فالإنسان مجرداً من أي لقب ذو قيمة لا تقدر والله تعالى لا ينظر إلى الألقاب ولا إلى الصور ولكن إلى القلوب والأعمال. يتبع