مشاهدات وانطباعات من واقع الإجازة ويافع.. إن سألت عنها وعن الرجال

> «الأيام» علي صالح محمد:

>
الصورة تبين رقصة البرع التي يؤديها 9 من شباب القرية ويصل العدد أحيانا إلى 16راقصاً
الصورة تبين رقصة البرع التي يؤديها 9 من شباب القرية ويصل العدد أحيانا إلى 16راقصاً
الناس والموسم ..منذ قرابة الشهر وأنا أقضي وعائلتي كعادتي السنوية فترة الإجازة المدرسية في قريتي المسماة ب( ظيئان ) المنتمية قبليا إلى ربع الثلثي من مكتب الحضارم وهو خامس المكاتب المكونة ليافع العليا إضافة إلى مكاتب البعسي والضبي والموسطة والمفلحي و الممتدة على هضبة سرو يافع أو سرو حمير وعاشر المكاتب المكونة ليافع السفلى اليهري والسعدي والناخبي والكلدي واليزيدي و الممتدة حتى بحر ابين .

في هذا الموسم من كل عام تدب الحياة وتنتعش على غير العادة على الهضبة بقوة بحكم الحضور والتوافد المتزايد والملحوظ لأبنائها العائدين إليها من كل مناطق انتشارهم داخل الوطن أو خارجه كنسور هاجرت بحثا عن أرزاقها لتعود إلى مواطنها في الجبل المنيف كلما حن بها الشوق إليه

ويافع إن سألت عن الرجال

فهم كالأرض أشباه الجبال

وإن تسأل عن الأشبال يوماً

فروخ النسر تسبح في الأعال

سلالة حمير من كل قيل

إذا نطقوا ففي فصل المقال

خصوصاً حين يتوافق هذا التوافد مع الإجازة المدرسية ليوفر للعائلات أيضا فرصة الحضور والمشاركة واللقاء بالأهل والأحباب بعد غياب دام سنوات طوالاً في أرض الاغتراب برفقة الزوج المكافح في سبيل حياة أفضل، ساعد على ذلك وصول الطريق الإسفلتي إلى الهضبة لترتبط بالبيضاء وصنعاء من ناحية الشرق والشمال والحبيلين وعدن من ناحية الجنوب، وذلك بعد معاناة طويلة من مشاق الطرق الوعرة مع أنها لم تزل مستمرة في أغلب مناطق الهضبة ومناطق السيل (وعاد يافع بليات السيل) أو مناطق يافع السفلى التي لم تصلها نعمة الإسفلت بعد ومنها ما يجري تنفيذه والعمل فيه ومنها ما ينتظر لتظل حلماً وأملاً للناس سيخفف عليهم كثيراً أعباء ومعاناة التنقل والمعيشة.

والطريق المسفلت في هذه المناطق أصبح نعمة حقيقية لا يشعر بها إلا من كابد عناء ومشاق الطرق الوعرة أو مشاق السير لأيام من وإلى المنطقة ، مثلها مثل نعمة توفر المياه الصالحة للشرب من خلال مشروع المياه الذي أنجز قبل أعوام ، ونعمة الكهرباء التي يأمل الناس بإنهاء معاناة انقطاعاتها المستمرة من خلال مشروع الربط بالمحطة الكهروحرارية وضم الكهرباء القائمة الى المؤسسة العامة .

ولعل ما يميز هذا الموسم عن غيره هو هطول أمطار الخريف التي ينعم الله بها على المنطقة في مثل هذا الوقت من كل عام لتتدفق السيول في الشعاب والوديان لتهدأ نفوس الناس وتستقر، و لتروي الأرض والآبار السطحية ، و معها تروى أشجار البن الشهيرة في وديانها المعمورة يهر وذي ناخب وحطيب وصدر، كما تنتصب أعواد الذرة المزدهرة في هذا الموسم متباهية بأنواعها المختلفة (كالعوبلي، والعدهي، والجاملي، والجعيدي) ، بخاصة إذا أنعم الله بصيف مدرار على المنطقة في شهري أبريل ومايو وإن كان الصيف ضعيفاً استبدلت بزراعة الذرة الشامية، لتتزين المنطقة وتكسى باللون الأخضر في ظل مناخ معتدل لتصبح المنطقة برمتها مصدر سحر وجاذبية لا تقاوم لقضاء الإجازة فيها .

ومن الناحية الاجتماعية يصادف في هذا الموسم أن تزدهر حفلات الزواج في كل قرية ، حيث تتوفر الظروف المثالية للجميع ليجدوا فيها فرصة لا تعوض للقاء بعضهم البعض بعد طول غياب ، وفي هذه الأفراح يمارس الناس ما تبقى من طقوسهم وعاداتهم وثقافتهم الشعبية المميزة ، وبهذا يؤصلون موروثهم الإنساني الذي يميز يافع بعاداتها وتقاليدها وفنونها عن غيرها من المناطق والقبل اليمنية من خلال الزوامل الشعبية وفنون الرقص والبرع والمساجلات الشعرية المتميزة الأمر الذي يؤكد حقيقة التنوع وخصوصية الهوية الثقافية التي يتمتع بها كل موروث وتظل الذاكرة الشعبية تحتفظ به على الدوام في اطار عملية حفاظ وتجديد وانتقال تستحق الإعجاب والثناء اذ يشترك فيها الناس جيلاً بعد جيل ، وهم في ذلك يقاومون بوضوح كل عوامل التأثير الخارجية الناتجة عن التحولات السياسية والفكرية المتغيرة أو غيرها من العوامل التي تؤثر على عادات الناس وتقاليدها لتبقي على الحضور الذكوري فقط بعد الانحسار الملحوظ للحضور الفاعل للعنصر النسائي الذي كان حضوراً مدهشاً ومميزاًً إلى عهد قريب ولكنه تأثر- ولأسباب كثيرة -بعوامل عديدة وبالتحديد منذ عام 1994وما خلفته الحرب من نتائج في نفوس الناس إضافة إلى الإفرازات الناتجة عن الهجرة والانفتاح والتمدن وآثارها الانعكاسية اقتصادياً واجتماعياً وفكرياً على علاقات الناس وعاداتها .

(وأما إن سألت عن الذراري يمانيات أقمار الليالي)

فلن يعد بمقدورك ان تشاهد تلك الصورة الأسطورية الجميلة لأميرات وملكات حمير وهن يشتركن بإباء وزهو في رسم تلك الصور النادرة التي لم يبالغ الشاعر العراقي سعدي يوسف حين وصفها في إحدى روائعه الشعرية الموسومة ببلاد القمر، كما لم يعد بمقدورك أن تشاهد تلك الصورة الدالة على الحكمة والحشمة في لباس المرأة اليافعي الذي كان يراعي ويرمز - إلى جانب ما يتسم به من جمال واحتشام - الإشارة إلى الوضع الاجتماعي للمرأة إن كانت متزوجة أو مخطوبة أو فتاة عذراء ولعل في ذلك عاملاً ساعد على الزواج المبكر وعلى انعدام ظاهرة العنوسة حين ذاك ،وهي الظاهرة المؤرقة والمنتشرة اليوم بقوة في كل المنطقة ، وذلك بعد أن دخل الحجاب و انتشر اللون الأسود ليلف النساء ويحجبهن بصورة ترمز إلى الحداد كعنوان للمرحلة من حيث المضمون ، ومن حيث الشكل يحبس المرأة ويجعل منها شخصية مجهولة الهوية ينظر إليها بكونها عورة فقط، بعد أن كانت ولزمن طويل محط اعتزاز بالغ كأم وأخت وزوجة تحتل مكانة اجتماعية واقتصادية كبيرة باعتبارها شريكة حقيقية يعتمد عليها في صنع الحياة ، كإنسان منتج يؤدي مهام عديدة وكثيرة وشاقة لا يستغنى عنها في الحقل أم في المنزل ، مع أن دخول بعض الخدمات وفر عليها بعض العناء كجلب الماء أو الحطب من الوديان والشعاب البعيدة .

ومع كل ذلك فإن للنساء عالمهن الجميل أيضاً وطقوسهن وعاداتهن البديعة حتى وإن انحسرت ظاهرة الاختلاط ونتج عنها ازدياد نسبة العنوسة التي سيعاني منها المجتمع اليافعي كمجتمع محافظ اتسم بالعفة والنقاء والانغلاق أيضاً .

والملاحظ أن احتفالات الزواج اليوم تتميز بكثرة الإنفاق المادي على تكاليف تجهيز العروس- مع أن مبالغ الدفع والمهر محددة عرفياً ومجمع عليها داخل القرية وخارجها - وعلى مقايلها وولائمها المنهكة والمهلكة للجميع التي لا ينجو منها لا العريس ولا آل العروس، وأظن أن الكل يعاني من الفرح أكثر من ممارسة الفرح ذاته ومن باب المؤازرة لا يمتلك المرء سوى مشاعر الإشفاق المعنوية بعد أن غابت مواقف الدعم المادي التي كانت تميز علاقات التعاون بين الناس عند الزواج أو البناء وحين يتعرض المرء لمحنة ما، لهذا أصبحت الهجرة والاغتراب أحد أهداف الشباب وكل من بلغ سن الرشد ليمضي سنوات يكافح من أجل هذا اليوم الموعود وليثبت أنه أصبح في نظر الناس رجلاً يستحق التقدير ويحظى بالاعتراف الاجتماعي بصفته أصبح رجلاً استطاع أن يتزوج وأن يبني بيتاً و يمتلك ما يمتلكه الآخرون ، ولهذه النظرة الاجتماعية أثرها الكبير في تحديد خيارات ومستقبل وتشكل شخصية الرجل اليافعي، حيث يحتكم الجميع لها ، ومن شذ عنها لا يحصل على الاعتراف الاجتماعي المطلوب كما لن يتمتع بامتيازات هذا الاعتراف القاسي، لهذا تجدهم يصارعون من أجل استيفاء شروط ومتطلبات هذا الاعتراف المادية والاجتماعية ومعاييره وبمسمياته المتغيرة والمتحولة مع الزمن أو من مرحلة إلى أخرى لتصبح في مجملها أهم محفزات وجودهم ونشاطهم الإنساني القائم على التماثل والتنافس لتحقيق الذات والنجاح. وهذا ما يفسر ظاهرة العزوف والانقطاع المبكر عن مواصلة التعليم وبالذات في الأعوام الأخيرة حيث تشير مخرجات الثانوية بقسميها العلمي والأدبي لهذا العام مثلاً إلى تخرج 326 طالبا و30 طالبة في حين بلغ عدد الطلاب المنتقلين إلى الثانوية العامة 1020 طالباً وطالبه ، وهذه الظاهرة ملازمة للإنسان اليافعي منذ زمن قديم وتقف وراء هجرته الدائمة ، وعنائه وكفاحه الدءوب وانتشاره في كل بقاع الأرض ، ليحقق الكثير منهم نجاحاً كبيراً كانت البداية فيه كسب ما يمكنه من شراء بندقية يزهو بها كقبيلي أمام أقرانه حين عودته، ومن هؤلاء من حقق مع الزمن إمبراطورية مالية ونجاحاً مشهوداً لم يكن يخطر ببال ، والأكيد أن وراء هذا النجاح خاصية الإنسان المكافح والمنتج والعصامي وتلك القيم الاجتماعية والإنتاجية الإيجابية الجميلة كحب العمل والتغلب على المشاق والصبر والتحمل ، أي تلك القيم التي غرستها مدرسة الحياة الشاقة في هذه الشخصية بحكم قساوة الظروف والحياة والطبيعة في المنطقة ليصبح الناس فيها أشد بأساً منها ولسان حالهم يقول .:

لنا التاريخ يشهد في جلاء

ولا لبس هناك بأي حال

بأنا من ذُرى جبل منيفٍ

هبطنا كالنسورِ لذي سفال

وشرقنا لأقصى ألأرض حتى

وصلنا أرض جاوة كالهلال

وبالنسبة للشباب اليوم فمما يبعث على الارتياح هو تنافسهم الواضح وتوجههم الجاد نحو العمل المنتج والتعاون والتنافس في الحفاظ على الموروث الثقافي ، ومع أنه لا بديل ولا طريق آخر غير التعلم والمدرسة لكنهم يعانون كثيراً من رداءة العملية التعليمية ومن الفراغ الكبير ومن الحال المعيشي العام ليجدوا في الهجرة المبكرة عالمهم وفضاءهم الجديد لتحقيق ذاتهم وآمالهم الموءودة .

لكل شيء ضريبة:

و مع وصول الخدمات المدنية إلى الهضبة وهي الخدمات التي ظلت ولزمن طويل أحلاماً وآمالاً راودت مخيلة الناس جيلاً بعد جيل و هدفاً لنضالهم الطويل والصبور، من أجل تغيير معالم الحياة للتخفيف من المشاق ومظاهر الجهل والفقر والمرض التي فرضتها حياة العزلة و الطبيعة القاسية لتصبح اليوم بعد نضال وإصرار كل الناس واقعاً حقيقياً هي في مجملها نعم حقيقية ، لو حكيت عن بعضها للمرحوم والدي الذي توفاه الله قبل أن يراها لما صدق ذلك وهو الذي مع أقرانه كانوا يقطعون المسافة بينها وبين عدن بثمانية أيام سيرا على الأقدام واليوم أصبحت المسافة نفسها تقطع بثلاث ساعات ، وهكذا الحال حين أشرح لأبنائي حال الأمس والمعاناة فهم لا يتخيلون كيف كان الحال قبل ثلاثة عقود ، الأمر الذي يؤكد أن الحلم الإنساني عملية مستمرة ومتواصلة لا تتوقف وإن لكل جيل أحلامه وآماله انطلاقاً من واقع الحال . وهكذا الحال مع انتشار المدارس والمستشفيات والكهرباء ومياه الشرب والاتصالات ونشوء الأسواق المليئة بالبضاعة بكل أنواعها ليزدهر العمران كماً ونوعاً بفضل سهولة توفر مواد البناء وتيسر نقلها ، ومقابل كل هذه النعم الجميلة يقال إن لكل شيء ضريبته أو أن لكل تقنية خطورتها ، وهو ما بدأ يتشكل وينشأ كنتاج طبيعي لدخول الخدمات المدنية وما تفرضه من عادات جديدة لم يرتق بعد السلوك أو الوعي الاجتماعي أو الفني إلى مستوى إيجاد الحلول لها ومعالجتها بصفتها ظواهر جديدة لم تكن مألوفة ويتضمنها قاموس لغتهم وحياتهم إلى قبل سنوات ، ونقصد بذلك التعامل مثلاً مع قضية النظافة والصرف الصحي وما ينتج عنهما من مساوئ صحية وبيئية ملحوظة كانتشار أمراض الملاريا والتيفوئيد والفيروس الكبدي وغيرها ، بسبب انتشار القمامة في الأسواق وفي القرى وعلى قارعة الطريق الإسفلتي وفي الوديان ومصبات السيول والسدود بصورة مقززة ومعيبة ، وكذا مساوئ الصرف الصحي التي لا يدرك الناس بعد مخاطرها القادمة في ظل انعدام الحلول والنظرة القاصرة في التعامل مع هذه الظواهر الجديدة التي تفرض على الناس وعلى السلطات المشاركة في إيجاد الحلول العلمية والعملية بما يتفق وطبيعة المنطقة الجغرافية .

إذ قد لا يصدق البعض ان تصريف القمامة المتجمعة يوميا - من الأسواق فقط - يتم في عدن بسبب صعوبة الحصول على مكب قمامة قريب داخل المنطقة او بالقرب منها

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى