الاديب والشاعر الكبير أحمد السقاف يروي حكايات مثيرة من رحلاته في الوطن العربي حكايات من الوطن العربي الكبير

> «الأيام» متابعات:

> لا بد من صنعاء ..«لا بد من صنعا وإن طال السفر» ردد هذا أمين الريحاني وهو في طريقه إلى صنعاء لمقابلة الإمام يحيى حميد الدين كما جاء ذلك في كتابه «ملوك العرب» وشاء الحظ أن أردد هذا أيضاً في أول رحلة لي إلى صنعاء لتفقد سير العمل في المدارس والمستوصفات التي سارعت الكويت ببنائها كهدية منها إلى شعب اليمن الشقيق.

كنت قد انتقلت من العمل في وزارة الإعلام، وعينت عضواً منتدباً للهيئة العامة للجنوب والخليج العربي، هذه الهيئة التي ارتبطت بوزير الخارجية، ولم يكن العمل مع رئيس الهيئة العامة ووزير الخارجية بالجديد علي، فلقد عملت معه بضع سنوات في دائرة المطبوعات والنشر قبل الاستقلال ونشوء الوزارات، وعملت معه بضع سنوات وكيلاً لوزارة الإرشاد والأنباء - وزارة الإعلام اليوم- بعد الاستقلال. إن كثيراً من الناس يتهيبون الانتقال من عمل إلى آخر، لأنهم يتهيبون المجهول ويخشون الانتقال من وظيفة إلى وظيفة أخرى، وقد استغرب الكثيرون حين وضعت نهاية لوجودي في وزارة الإعلام لاعتقادي أن العمل الإعلامي يستهلك طاقة المشرفين عليه أكثر من أي عمل آخر، فلا بد والحال هذه من التجديد. وما كدت أستقر في الهيئة العامة حتى قمت بأول رحلة إلى صنعاء، والطريق إلى صنعاء في ذلك الوقت ليس طريقاً سهلاً فلا بد من السفر إلى القاهرة، ومنها إلى أسمرة عاصمة ارتيريا البطلة المكافحة في سبيل الحرية والاستقلال، ومن هناك لا بد من المجازفة فالسفر يجب أن يكون بطائرة صغيرة حبشية كانت أو يمنية، والفراغات الهوائية على جبال ارتيريا وعلى الجبال القريبة من تعز، ولا سيما جبل صبر المنيف المخيف، تلعب بالطائرة الصغيرة ذات المحركين كما يلعب الأطفال بالطائرات الورقية في أيام الرياح وكان السفر في فصل الصيف وفي هذا الفصل تنزل الأمطار بغرازة في الحبشة واليمن الشمالي.

أود أن أورد ما شاهدت لدى ركوبي الطائرة الصغيرة ذات المحركين من أسمرة إلى تعز، فلقد ركب معي اثنان كانا يتحدثان العبرية ودهشت، وقلت لنفسي كيف يحدث هذا؟ وأين هي الحكومة اليمنية؟ وأين يقظة القوات المصرية؟ وصممت على إبلاغ المسؤولين بمطار تعز ما ساورني من شك في أمر الرجلين، وما كنت أدري أن هذه الطائرة الصغيرة ستنزل في مطار ترابي في ميناء مصوع وأن الرجلين سينزلان في هذا الميناء فهما كما أعتقد ممن يعملون في جزر البحر الأحمر وقد حدث وصدق كلام صديقي حين قال إن هيلا سيلاسي يعمل مع جميع الجهات المعادية للشعب العربي، وإن علاقته بإسرائيل والصهيونية العالمية علاقة قوية جداً، وإن تظاهر أحياناً بالتقرب من بعض القادة الافريقيين المخلصين.

ولما هبطت الطائرة في مطار تعز الرهيب شغلت بالمستقبلين الذين عبروا باستقبالهم لي عما يكنه المسؤولون اليمنيون من حب وتقدير للكويت. إن مطار تعز القديم يقع على رأس جبل صغير يطل على واديين عميقين ومساحة المطار تقل عن مساحة ملعب كرة القدم، والهبوط في المطار كان ضرباً من المجازفة، وقد ألغي هذا المطار بعد عام 1970م بعد أن اختبرت شجاعتي فيه أكثر من خمس عشرة مرة. ونزلت في تعز في فندق جديد وشاهدت العمران ينتشر في أنحاء كثيرة من المدينة وقد قال لي الكثيرون إن المدينة لم تعرف الفنادق إلا بعد الثورة وإن المباني الحديثة فيها لم تنتشر إلا بعد زوال حكم الإمام.

بقيت في تعز بضعة أيام قبل الصعود إلى صنعاء، وكان يلازمني مدير مكتب دولة الكويت في ذلك الحين المهندس أحمد قايد بركات، وكان عبدالله السلال رئيس الجمهورية في القاهرة بحجة الاستجمام والعلاج، وقد سبقه في الإقامة بالقاهرة نائبه الدكتور عبدالرحمن البيضاني، ولم يبق في الصدارة سوى رئيس الوزراء حسن العمري، وقد زرت الرجل وتعرفت عليه في دار الرئاسة بتعز وكان قد قصد تعز ليثبت للناس أنه رئيس الجمهورية المقبل، ولم يخف عني ما سمعه ممن هتفوا له فقد قال إنهم هتفوا بحياته وقالوا لا رئيس إلا العمري، وقد أحسست أن صراعاً سيحدث لا محالة بينه وبين السلال إن عاد هذا الأخير من القاهرة، وقد حدث ذلك بعد مغادرتي اليمن بأيام. لقد تفقدت في تعز بناء مدرستين ومستوصف ومسجد وغادرتها إلى صنعاء سالكاً طريقاً معبداً غير مرصوف بين الجبال المرعبة، وكانت الرؤية يحجبها أحياناً الغبار الكثيف الذي تثيره السيارات العسكرية المصرية، فالجيش المصري كان له وجود قوي في تعز في تلك السنة التي اشتدت فيها المعارك بين الثوار من أبناء اليمن الجنوبي وبين القوات البريطانية، ومركز قيادة ثورة الجنوب في تعز لقربها من حدود الجنوب الثائر على وجود البريطانيين، وبعد مضي أكثر من خمس ساعات وصلت صنعاء، ونزلت فندق الحرية، وقد ترددت قبل دخول الفندق المزعوم فكل ما في هذا البناء الحجري الشامخ يرفض التسمية التي أُطلقت عليه، ولكن أين ينزل المرء في صنعاء؟ فهي مدينة محرومة من أشياء كثيرة لا يستغنى الإنسان عنها في هذا العصر ومنها الفنادق، وقد كان الناس ينزلون المقاهي أيام الأئمة، وقد أكد لي المهندس أحمد بركات أنه استعمل نفوذه الشخصي حتى استطاع أن يحجز لي غرفة الإمام البدر الواقعة في أعلى الفندق، لأن الأجانب من صينيين وروس وألمان شرقيين ويوغسلافيين يحتلون جميع غرف هذا القصر الحجري الكئيب، وكان الصعود إلى الغرفة لا يقل صعوبة عن الصعود إلى قمة الهرم الأكبر في الجيزة، وفوجئت بعد هذا التعب الذي أشرت إليه بسرير متهالك في غرفة زال ربع سقفها بقنبلة دبابة ليلة قيام الثورة ونظرت إلى المهندس مدير مكتب دولة الكويت في صنعاء ففهم ما يجول في خاطري وأخذ يشجعني على قبول الغرفة الملكية ولسان حاله يقول: ليس في الإمكان أبدع مما كان. ونزلت لتناول طعام الغداء في حديقة القصر ذات الشجيرات المعدودات فتقدم مني الندل وقال أنصحك أن تأكل رزاً مع الخضار والبلدي، فقلت له بل هات لي خبزاً مع الخضار والبلدي بعد أن فهمت منه أن البلدي يطلق على لحم الخراف اليمنية، وطلبت الحساب فكان نصف ريال وعجبت لهذا الرخص الذي لا مثيل له في العالم، واحتجت إلى الراحة بعد الغداء غير أني عدلت فالصعود إلى الغرفة ضرب من الأعمال الشاقة، فقصدت المكتب للاطلاع على مناقصات مشاريع المدارس والمستشفيات في صنعاء ومناخة وعمران والحديدة وبيت الفقيه وزبيد وغيرها من المدن اليمنية، وفي المساء زارني وزير الاقتصاد محسن سري- رحمه الله رحمة واسعة - وخرجنا نمشي في أزقة صنعاء المظلمة، وكان معنا المهندسان أحمد بركات وعبدالله الكرشمي، وهما وزيران في الوقت الذي أكتب فيه هذه الحكايات وهو صيف عام 1978م وقد كان المهندس بركات مديرا لمكتب دولة الكويت في صنعاء والكرشمي نائباً للمدير، وعملهما فني في المقام الأول فهما اللذان كانا يطرحان المناقصات ويشرفان على تنفيذ العمل، وقد انضم إليهما في ذلك الصيف مهندسان لامعان هما محمد الخطري ومحمد عبدالله عبدالغني، وحينما تجاوزت الساعة الثامنة قال لي محسن سري سنعود بك إلى فندق الحرية، وكنت قد نسيت أن علي أن أعود إليه وحاولت أن أتأخر عن العودة، ولكنني علمت أن التجوال ممنوع بعد الثامنة مساء فالبلاد في حالة حرب، والألغام تتفجر في كل مكان، ومشيت مع الأصدقاء الثلاثة واقتربنا من فندق العذاب، وسألت محسن سري عن الحكمة في تحويل هذا البناء المزعج إلى فندق، فالناس ولا سيما الأجانب منهم سيعلمون أن الإمام البدر كان يعيش عيشة الشقاء شأنه شأن شعبه الفقير، فلقد كان من الواجب الإعلامي أن لا يعرف الناس ذلك، فقال إنها الضرورة فنحن محتاجون إلى فنادق في العاصمة وأرباب المال بنوا عدة فنادق في تعز والحديدة ولم يقتربوا من صنعاء لأن المال جبان، قلت ولكن لماذا سمي فندق الحرية؟ فهل الحرية رخيصة إلى هذا الحد؟ إن التصحيف جدير بهذه الكلمة فضحك الجميع طويلاً للنكتة. دخلت الفندق مكرهاً وأخذت أصعد الدرج وكلما قطعت عدداً من الدرجات توقفت للاستراحة، فقد ازدادت دقات القلب، فصنعاء مرتفعة عن سطح البحر ارتفاعاً كبيراً، والقصر مرتفع فوق ذلك، والغرفة الملكية فوق السطوح ووصلت بعد جهد جهيد وأنا ألهث كأني من المشتركين في سباق الجري للمسافات الطويلة وبحثت عن صابون لأغسل وجهي ويدي فلم أجد صابونا في الحمام الملكي الملحق بالغرفة المشوهة، ولم يكن في الغرفة جرس، لأن جلالة الإمام البدر لم يسمع في عهده الميمون بالجرس الكهربائي، وكان يكفيه صوته الأجش حين يطلب شيئاً من الخدم المكدسين في الدرج لتلقي الأوامر الملكية. وسألت نفسي ماذا عسى أن أصنع؟ إن النزول هين ولكن العودة عذاب فاستلقيت على السرير مجهداً أشد الجهد، وكنت كلما غزا النوم أجفاني جلست مذعورا فقد كان النفس ينقطع فجأة، وبقي الحال على هذا المنوال حتى الصباح، فارتديت ملابسي ونزلت لتناول الفطور، فجاءني الندل يعتذر بسبب تأخر وصول الخبز وانتظرت، وطال الانتظار، فصرفت النظر عن الخبز وأكلت البيض مسلوقاً وشربت كوباً من الشاي ثم توجهت إلى المكتب لمواصلة العمل، وأرسلت من يحمل حقيبتي من فندق الحرية، فقد صممت على النزول في إحدى غرف المكتب فهي أرحم ألف مرة ومرة من الغرفة الملكية فلا درج يقطع الأنفاس ولا ارتفاع يمنع الأوكسجين، والمطبخ الصغير يستطيع أن يلبي طلباتي المتواضعة، وجاءني محسن سري وأنا أستعد لركوب السيارة فقد قررت زيارة مدرسة تبنى في مناخة وكان معي المهندسان أحمد بركات وعبدالله الكرشمي، وكلاهما موظف بمكتب دولة الكويت في صنعاء، وصمم سري رحمه الله على مشاركتي الرحلة، وانطلقت بنا السيارة في جبال شاهقة على طريق مرصوف أحسن رصف يطلق عليه اليمنيون الطريق الصيني، فقد قام الصينيون بشقه وتعبيده ورصفه أيام الإمام أحمد ولولا هذا الطريق الذي ربط الحديدة على ساحل البحر الأحمر بصنعاء لما نجحت الثورة، ويقال إن كبير المهندسين الصينيين الذي أشرف على إنجاز الطريق قد توفي بعد إنجازه في اليمن فأقامت له الحكومة الصينية تمثالا عند مدخل صنعاء، وبعد ثلاث ساعات وصلنا مناخة فقد كان سير السيارة حذراً لكثرة السيارات الضخمة المحملة بالجنود المصريين وبالمؤن والذخائر القادمة من ميناء الحديدة. ومناخة تقع على جبل عظيم الارتفاع وقد حسبته جبل مسار، ذلك الجبل الذي انطلقت منه الدعوة للمذهب الفاطمي سنة 439هـ.

لقد كان الأخوة محسن سري وعبدالله الكرشمي وأحمد بركات يصغون باهتمام لحديثي عن الدولة الصليحية وقد كانوا يظنون أن الأدباء والشعراء لا يهتمون بالتاريخ. والحقيقة أن الاطلاع على تاريخ الأمة العربية واجب قومي ومن الخطأ أن نتصدر للحديث عن القضايا العربية عن غير علم بتاريخ كل جزء من أجزاء وطننا الكبير.

كانت الساعة قد تجاوزت الثانية بعد الظهر بعد الانتهاء من زيارة سير العمل في المدرسة وكان الجوع قد بدأ يدغدغ البطون وسألت الرفاق رأيهم في مواصلة السير نحو الحديدة فليس من الحكمة العودة إلى صنعاء ثم ننطلق منها مرة أخرى لزيارة الحديدة. وقد استحسنوا الرأي على عدم الاستعداد، وفكرنا في الغداء فليس في البلدة مطعم يمكن أن نلجأ إليه، وقر الرأي على شراء خروف صغير من راعي غنم كان يرعى بجوار المدرسة قام هو نفسه بذبحه وتنظيفه واشترينا حزمة حطب وبضعة أقراص خبز وتركنا البلدة وواصلنا السير نحو الحديدة وبعد مسيرة نصف ساعة أقبلنا على شجرة ضخمة يصب قريباً منها شلال من أعلى الجبل مكوناً بركة واسعة، وبدت لي الشجرة من بعد كأنها تحمل أثمارا تشبه البرتقال وبعد الاقتراب منها رأيت العجب العجاب، فجميع أطراف أغصان الشجرة ثبتت فيها أعشاش محكمة الصنع لطيور صغيرة صفراء جميلة فحططنا تحت الشجرة وأشعلنا الحطب ونزل الرفاق الثلاثة يسبحون في البركة تحت الشلال، بعد أن تم وضع الخروف على الجمر مرفوعاً على صخرتين كبيرتين، وبقيت مشدوهاً بمنظر واحد من هذه العصافير النشطة الذكية، فقد شاهدته يجلب الطعام لصغاره الثلاثة بعزيمة لا تكل، كان يختفي بضع دقائق ثم يعود وفي منقاره الغذاء فتمتد إليه أفواه الصغار الثلاثة فيعطي واحداً منها ثم يذهب ويعود ويعطي الثاني ويذهب ويعود ويعطي الثالث، وكلها تصيح فاغرة أفواهها تطلب الأكل وهو لا يخطئ، وكان الجو جميلاً والرذاذ ينعش النفس، والجبال والسهول خضراء تأسر القلوب، وفكرت طويلاً في ذكاء هذا العصفور وفي اختياره آخر الأغصان لربط عشه فيها، فهو لم يفعل كما تفعل الحمامة حين تبيض على عش مفكك مبعثر، سرعان ما تقذف به الرياح إلى الأرض، أو يكون عرضة لغزو الزواحف والطيور الكبيرة وإنما اختار آخر الأغصان ليمنع وصول الأذى إلى بيضه وصغاره، فلا الطيور الكبيرة تستطيع الوقوف على آخر الأغصان، ولا الزواحف تستطيع أن تزحف إلى طرف الغصن، والرياح مهما اشتدت فلن تستطيع أن تجلب الأذى إلى العش وما فيه، فقد أحكم صنعه على نحو يثير الإعجاب، وفي لحظة التأمل سمعت حمامة تنوح على جذع شجرة يابسة فقلت لنفسي قد تكون تندب صغارها، فهي ليست ذكية كهذا العصفور الذي احتاط لجميع الأخطار.. وبصورة عفوية أخرجت القلم وبدأت أناجي العصفور الأصفر والرفاق مشغولون بالسباحة في بركة الشلال. وقد نشرت القصيدة في مجلة العربي، وأقيمت لها ندوة أدبية في تلفزيون صنعاء في شتاء 1977 وهي مقررة على طلاب المدارس هنا، ومطلعها:

يا طير يا عصفور يا أصفر ** مالي إلى غيرك لا أنظر؟!

يهنيك ما يسبي وما يسحر ** ومنظر يزرى به منظر

يا طير يا عصفور يا أصفر

لم تكتمل القصيدة في الوقت الذي شويت فيه الخروف، فسهرت على تشذيبها في فندق الأخوة بالحديدة، وكانت الحديدة كعادتها شديدة الحرارة والرطوبة، وقد وصلناها مع الغروب، وفي الحديدة ماء نقي صالح للشرب، قيل لي إن الروس يشرفون عليه، وكذلك الحال في تعز، فقد قدم الأمريكيون عوناً للمدينة حين اهتموا بتنقية المياه وإسالتها إلى المنازل، أما صنعاء فقد حرمت من الماء النقي، لذلك كنت ألجأ إلى شرب المياه الغازية خوفاً من الأمراض، فالمنازل في صنعاء تشرب من آبار حفرتها لهذا الغرض، وهذه الآبار عرضة للتلوث برشح البواليع، وقد علمت أن مشروع مياه صنعاء يتم تنفيذه اليوم بسرعة، بعد أن كبرت المدينة واتسعت وارتفعت فيها العمارات والفنادق الجيدة، وازداد استهلاك الناس من الماء. إن الحديدة حين زرتها في ذلك التاريخ كانت بلدة صغيرة كئيبة، أكثر بيوتها من الزرائب المقامة من القصب أو أغصان الأشجار اليابسة، وهي اليوم مدينة مزدهرة، مبانيها حديثة ومتاجرها كثيرة والحركة فيها لا تنقطع حتى الفجر، إن مقارنة حالة مدن اليمن الثلاث صنعاء والحديدة وتعز بما كانت عليه عند اندلاع الثورة تبين مدى الانتصار الذي حققه هذا الشعب في شتى المجالات، إنني لن أنسى أولئك الشيوخ والنساء والأطفال الذين خرجوا للسلام علينا في مناخة، وهم فرحون ببناء مدرسة في بلدتهم، فلقد شاهدوا لأول مرة في حياتهم بناء المدرسة التي كانت حلما من الأحلام، إن الخطة التي نفذتها الكويت منذ بداية الثورة في مجال تشييد المدارس والمستشفيات خطة حكيمة تدل على وعي الكويت القومي وإيمانها بالمصير العربي المشترك، فلقد تدرج مكتب الكويت في صنعاء في تنفيذ بناء المدارس فبدأ بالمدارس الابتدائية ثم المتوسطة ثم الثانوية، وفي السنوات الأخيرة انصب الاهتمام على مباني الجامعة بعد أن وصل تلاميذ الثورة إلى أبواب الجامعة، وجامعة صنعاء اليوم من الجامعات المشهورة في الوطن العربي. إن التغيير لم يقتصر على المدن الثلاث وإنما شمل المدن والقرى والأرياف بصورة عامة، فالتعليم منتشر والحركة العمرانية في كل مكان، والازدهار واضح أشد الوضوح. وفي صباح اليوم التالي زرت مدرستين ومستوصفاً ومسجداً ينفذ بناءها مكتب الكويت، ثم عدت مع الرفاق الثلاثة إلى صنعاء، واجتمعت في المساء في مكتب الكويت بوزير القبائل محمد الرعيني، وبوزير التربية، وبغيرهما من المسؤولين، وبعد العودة من هذه الرحلة الشاقة الممتعة علمت بعودة عبدالله السلال إلى صنعاء فجأة، واضطراب الوزارة برئاسة حسن العمري، ثم سفر العمري والنعمان والإرياني والوزراء إلى القاهرة للاحتكام إلى الرئيس عبدالناصر واحتجاز الجميع هناك سنة كاملة وكان للعاملين بمكتب الكويت نصيب من هذه الهزة، فقد اتهم المهندسان أحمد بركات وعبدالله الكرشمي بالوقوف إلى جانب حسن العمري، فهربا إلى عدن سراً ثم قدما إلى الكويت فعمل الكرشمي مهندساً في وزارة الأشغال الكويتية، وعمل بركات مهندساً في مكتب الكويت في دبي، فتوقف العمل في مشاريع المدارس والمستشفيات، وتوترت العلاقات بين حكومة السلال ودولة الكويت بسبب إغلاق المكتب ومصادرة السيارات، وفي مطلع يناير 1967 تدارسنا الوضع، وقر الرأي على الوقوف على ما لدى المسؤولين في صنعاء فأما أن يستأنف المكتب أعماله خدمة للشعب اليمني الشقيق، وأما أن يصفى حساب المقاولين وينتهي المكتب. وسافرت في أوائل شهر فبراير عن طريق أسمرة، فتعز، لعدم وجود طريق آخر ذلك الحين، ولما وصلت صنعاء طلبت مقابلة عبدالله السلال، فقيل لي إنه في الحديدة يستجم من عناء العمل، وكان علي أن أزور وزير الداخلية المقدم الاهنومي، فالرجل مسؤول عن إغلاق المكتب ومصادرة السيارات، ولقد فوجئت باتهامات باطلة يسوقها الاهنومي للمهندسين الكرشمي وبركات. فزعم أن لديه وثائق تدين نشاطهما المعادي للثورة في اليمن، ولم أستطع السكوت فطلبت منه إطلاعي على هذه الوثائق لتقديمها للمسؤولين في الكويت، فنحن نرفض قبول من يسيء إلى ثورة الشعب اليمني الشقيق، وكان المجلس حافلاً، فارتبك ولم يجد ما يقوله، وقد بدا عليه الإحراج حين قلت: أليس السلال نفسه قد رشح المهندسين بركات والكرشمي لإدارة العمل بمكتب دولة الكويت قبل ثلاث سنوات وقال إنهما من خيرة شباب اليمن النظيف المخلص؟ فكيف يتحول النظيف المخلص فجأة إلى معاد للثورة والوطن؟ وغادرت مكتب الوزير وركبت السيارة واتجهت نحو الحديدة، ولم يكن معي أحد من موظفي المكتب فقد عُين المهندس محمد عبدالله عبدالغني رئيساً لمجلس إدارة مصنع النسيج، وعين المهندس محمد الخطري في وزارة الأشغال بعد هرب الكرشمي وبركات إلى الكويت، ووصلت الحديدة مع الغروب واتصلت من الفندق بالقصر الذي نزل فيه السلال وطلبت المقابلة، فجاءني الرد بأنه في انتظاري، وحين أقبلت عليه وكان جالساً في باحة القصر هب واقفاً وتقدم نحوي مرحباً كأنه يعرفني من زمن طويل، وبعد المقدمات المألوفة طرقت الموضوع بكل صراحة، وكان مصغياً أشد الإصغاء، وما كدت أنتهي حتى قال: سلم على الاخوان في الكويت وقل لهم:«عاد حنا خارجين من العزلة لا نعرف الأصول ولا الدبلوماسية فلا يعتبون علينا»، وأمر بعودة المهندسين الخطري وعبدالغني إلى عملهما بالمكتب وبإعادة السيارات المصادرة، وسمح بسفر عائلتي بركات والكرشمي إلى الكويت. لقد حاول في تلك المقابلة أن يقنعني بصرف النظر عن السيارات المصادرة لتبقى في حوزة الرئاسة، غير أني رأيت أن عودة السيارات ستزيل كل أثر من النفوس، فاقتنع وأصدر توجيهاته بأن يعود المكتب إلى نشاطه من أجل الشعب اليمني المحتاج إلى عون الأشقاء المخلصين.

بقيت في صنعاء بضعة أيام أشرفت فيها على عودة المكتب إلى العمل، واجتمعت بالمقاولين وحثثتهم على مضاعفة النشاط، فأطفال اليمن محتاجون أشد الحاجة إلى المدارس فعهد الأئمة عهد الجهل والفقر والمرض، ولولا الثورة لبقي هذا الشعب سائراً نحو الفناء. لقد كان الإمام أحمد يقول لجلسائه من المقربين «جوع شعبك يتبعك» وأحيانا يقول إن كان الحديث عن التعليم «جهّل شعبك يتبعك» والجوع والجهل يقودان إلى الأمراض فالفناء، ولقد صدقت تلك الطبيبة الفرنسية مؤلفة كتاب (كنت طبيبة في اليمن) حين قالت: إن هذا الشعب سينقرض بعد مائة سنة إن بقي حكم الأئمة. وقد كانت تلك الطبيبة تعمل في قصور أسرة الإمام أحمد بن يحيى حميد الدين.

عدت إلى زيارة صنعاء في أواخر أغسطس سنة 1967 لتفقد سير العمل، وبعد وصولي ببضعة أيام عاد الرئيس عبدالله السلال من مؤتمر الرؤساء في الخرطوم صيف 1967 فذهبت للسلام عليه، فوجدته مجتمعاً بفريق من كبار الضباط الروس، فترك الاجتماع وجاءني هاشاً باشاً، وأخبرني بأن السوفييت قد أرسلوا إليه بعثة عسكرية لدراسة حاجة اليمن من السلاح، فالجيش المصري بعد نكسة حزيران يستعد للعودة إلى بلاده، وعلى اليمنيين أن يحموا ثورتهم، وحاولت الإيجاز في الحديث غير أنه أخذ يحدثني عما ستكون عليه الحال بعد رحيل المصريين وتنبأ بنهاية عهده، غير أنه أكد أن اليمن قد انطلقت إلى الأمام، ولن تعود إلى الوراء، ولن يعود إليها بيت حميد الدين. ولم تمض بضعة أسابيع حتى حدث ما حدث من تغيير.

لم تكن بيني وبين القاضي عبدالرحمن الإرياني رئيس المجلس الجمهوري معرفة سابقة. وأول زيارة قابلته فيها كانت في مدينة تعز في أواخر أكتوبر عام 1968، فقد انتقل إليها للراحة والاستجمام بعد اشتداد المعارك حول العاصمة، فالقبائل اغتنمت فرصة انسحاب الجيش المصري فشنت هجوماً ضخماً على العاصمة لإسقاط النظام الجمهوري بتأييد من قوى دولية كثيرة، غير أن الجيش اليمني استطاع أن يصد الهجمات وببسالة منقطعة النظير، وهب الصنعانيون يدافعون عن مدينتهم جنباً إلى جنب مع الجيش، وقد هربت البعثات الدبلوماسية من العاصمة وانتقلت إلى تعز. لم أستطع دخول قصر الإرياني بتعز إلا بصعوبة، فقد كان محاصراً بجماهير غفيرة من الأهالي الذين قدموا إليه في تظاهرة كبيرة مطالبين بافتتاح المدارس بعد أن مضى أكثر من شهر على بداية العام الدراسي، وما كدت أسلم عليه حتى شكا من وزراء التربية العرب الذين قابلهم وزير التربية اليمنية وطلب منهم مساعدة بلاده بالمدرسين فوعدوا بإرسالهم في بداية سبتمبر ثم مضى الوقت ولم يرسل هؤلاء القادة أحداً، وقد أشرت عليه بإرسال ثلاث برقيات إلى قادة القاهرة ودمشق وبغداد يناشدهم فيها أن يرسلوا المدرسين الذين تم الاتفاق بصددهم فاستصعب الأمر، ولكنني أكدت له أن عملاً كهذا يدخل في صميم أعمال هؤلاء القادة فاستدعى الأستاذ محمد أنعم وطلب منه كتابة البرقيات الثلاث، وقد جاء الرد من الرؤساء الثلاثة بأنهم قد أصدروا الأمر إلى وزاراتهم بسفر المدرسين في الحال. بقيت بتعز بضعة أيام تفقدت خلالها المدارس التي يشرف على بنائها مكتب دولة الكويت في صنعاء، وقصدت مدينة زبيد والحديدة للغاية نفسها، ولكني لم أستطع الوصول إلى صنعاء، فالمعارك حولها تجعل الوصول إليها متعذراً، وفي تعز قابلت الآنسة دعرة بطلة ردفان، والآنسة دعرة لم تلبس ملابس الفتيات منذ الصغر وأصرت على ارتداء ملابس رجال القبائل، وتعودت حمل السلاح والمشاركة في المعارك مع أفراد قبيلتها. وحين ثارت قبائل ردفان على الإنجليز كانت دعرة من أنشط الثوار. وفي إحدى الغارات الجوية البريطانية على قرية ردفان أصيبت دعرة بشظية قنبلة فنقلت إلى تعز مقر ثورة الجنوب، فأرسلها المصريون مع من أرسلوا من الجرحى بطائرة عسكرية إلى القاهرة، وقرر الأطباء إجراء جراحة للآنسة دعرة وطلبوا نزع ملابسها فأبت بشدة لأنها لا تريد أن يطلع أحد على حقيقتها، ولكن كل شيء قد تم بعد التخدير، وليس في دعرة ما يوحي بأنها من الجنس اللطيف، فلقد استطاعت أن تتحول في الشكل إلى الجنس الخشن، وكان لها ما أرادت، أما الاسم فقد جاء متفقاً مع الشكل، فأبناء اليمن يسمون أنثى الضبع دعرة، والآنسة دعرة لم تتجاوز الحد حين قبلت هذا الاسم.

وفي صيف 1971 بلغ الاقتتال بين الشمال والجنوب ذروته وحينما قصدت الشطرين لتفقد مشاريع الكويت زرت تعز وقصدت رئيس مجلس الرئاسة القاضي عبدالرحمن الإرياني للسلام عليه وقد رجوته أن يوقف القتال، فليس من المعقول ولا المقبول أن تستمر تلك الحرب، فأقرني على ذلك وطلب مني طرح الموضوع على رئيس مجلس الوزراء محسن العيني حين أجتمع به في صنعاء وقصدت صنعاء وقلت لصديقي الأستاذ محسن العيني إن الأستاذ محسن العيني لا يصلح لهذه المهمة فأطرق ثم قال وماذا ترى؟ قلت تصدر أمرك بوقف القتال. وأصدر أمره وتوقف القتال، وانتشر الخبر وقابلني بعض رؤساء القبائل بغضب شديد.

بقي الحمدي في الحكم أكثر من ثلاث سنوات كان خلالها متفهماً لرسالة الكويت القومية، شأنه شأن غيره من المسؤولين اليمنيين الذين يقدرون إخلاص الكويت في ما تعمل، وكان يحاول أن يذلل أية صعوبة تعترض عمل مكتب دولة الكويت في صنعاء، ولقد حدثت بعض الصعوبات في إدارة جامعة صنعاء حين كانت الإدارة غير يمنية. ولما كنت أمثل الهيئة العامة التي تمد الجامعة بأعداد من الأساتذة والفنيين والإداريين وتزودها بالمختبرات والكتب فقد اقترحت على الرئيس الحمدي أن يعين مديراً يمنياً للجامعة، لتهدأ الأمور ويستتب النظام وتمضي الجامعة قدماً نحو الأمام، فوافق رحمه الله على الاقتراح، وعين الدكتور حسن مكي من رؤساء الوزارات السابقين رئيساً للجامعة، ثم اختلف معه وعين الدكتور عبدالكريم الإرياني وزيراً للتربية ورئيساً للجامعة، دون أن أعرف الأسباب التي دعته إلى ذلك وقد استقرت أمور الجامعة وانتظمت فيها الدراسة غير أن الإرياني ترك الوزارة والجامعة في أواخر ربيع 1978م لأسباب لا أعرفها. لقد فعلت مثل هذا في مستشفى دولة الكويت بصنعاء فعينت طبيباً يمنيا لإدارة المستشفى، ليكون حكماً عدلاً بين الأطباء وهيئة التمريض وأكثرهم من المصريين، ومستشفى الكويت في صنعاء مفخرة للتعاون الأخوي بين دولة الكويت وبين الجمهورية العربية اليمنية وله فرع في مدينة باجل في سهل تهامة، وبعد رحيل الحمدي زرت صنعاء شتاء 1978م وقابلت المرحوم المقدم أحمد حسين الغشمي، رئيس مجلس الرئاسة، وكان الحديث عن المباني الجديدة لجامعة صنعاء وعن المستشفى، وما زالت أذكر قوله: إني أريد نصيحتك فانصحني بما تعتقد أنه الصواب، وكان ردي: إنك ابن اليمن والمثل يقول أهل مكة أدرى بشعابها، فأنت أعلم بمشاكل هذا الشعب وأدرى بما يريده منك المخلصون من أبنائه، وبهذا الرد تجنبت الخوض فيما لا يعنيني، وأديت النصيحة كما يجب أن تؤدى في الوقت نفسه، ولقد مضى الرجل إلى سبيل ربه، ومضى معه في الدرب نفسه من قيل إنه دبر الاغتيال، وإني لأكتب هذه الأسطر في صيف سنة 1978 وأنا بلندن والصحف العربية تحمل إلي أنباء محزنة عن توتر شديد في العلاقات بين شطري اليمن، ولا أملك إلا الابتهال إلى الله أن يجنب العرب المآسي والويلات، وأن يهيئ لهم من أمرهم رشداً. إن اليمن بشطريه محتاج أشد الحاجة إلى الهدوء والاستقرار، ليمضي قدماً في البناء ويتلافى ما فات، فليس من العدل أن تتصارع الدول الأجنبية في اليمن، وليس من العدل أن تتصارع الدول العربية فيه أيضا، إن اليمن بشطريه يجب أن يمد يده إلى الجميع، فلا يجوز أن ينحاز إلى الشرق ولا يجوز أن ينحاز إلى الغرب، وعلى اليمن بشطريه أيضاً أن يبتعد عن التكتلات العربية فهو محتاج إلى عون جميع الأشقاء ولا سيما عون المملكة العربية السعودية.

وفي يناير من عام 1979 زارني المقدم عبدالله الراعي، سفير الجمهورية العربية اليمنية، في مكتبي بالهيئة العامة، ونقل إلي دعوة رسمية لزيارة اليمن، ودهشت لهذه الدعوة، فأنا مكلف بتفقد سير العمل في المشاريع التي تنفذها الكويت في القطر الشقيق، وسفري إلى اليمن جزء من واجب الوظيفة، فلم الدعوة الرسمية؟ وبقيت أفكر وأخذني التفكير إلى الاعتقاد بأن المسؤولين يودون إطلاعي على الخلاف المشتد بينهم وبين إخوانهم في جنوب اليمن، وقررت السفر إلى صنعاء في مطلع شهر شباط (فبراير) 1979م وكان الاستقبال حاراً، والحفاوة تجاوزت ما ألفت في الزيارات السابقة وازداد رسوخاً في ذهني موضوع الصراع بينهم وبين إخوانهم الجنوبيين وفي هذه الزيارة تعرفت على زمرة كريمة في دعوات الغداء الرسمية من الشعراء والأدباء وكانت تمتد الجلسة - جلسة القات التي تعقب الغداء - حتى الساعة الثامنة مساء وكان للغناء والعود والرقص اليمني نصيب في هذه الجلسات الأدبية الفريدة. ولا أستطيع حصر أسماء أولئك الأعلام، وهم من هم في الأدب والشعر والسياسة والاقتصاد والعلوم.

وفي يوم العودة وقبيل إقلاع الطائرة بساعتين رن جرس الهاتف، وتحدث مدير المراسم بالقصر الجمهوري مع مدير مكتب دولة الكويت بصنعاء، وطلب منه إبلاغي رغبة رئيس الجمهورية علي عبدالله صالح في المقابلة، فقمت مسرعاً إلى السيارة وانطلقت إلى القصر الجمهوري لمقابلة هذا الشاب الذي قفز إلى الصدارة دون أن يحظى بالأضواء قبل ذلك، وقادني مدير التشريفات إلى مكتب الرئيس، فاستقبلني استقبالاً كريماً، وكان في المكتب وزير الخارجية الأستاذ عبدالله الأصنج والأستاذ أحمد المقدمي وزير التربية والتعليم، وتحدثنا في مواضيع شتى وكان قد ابتدأ الحديث عما قدمت الكويت من واجب أخوي نحو ثورة اليمن فقال: لئن كانت الشقيقة الكبرى مصر قد قدمت الرجال لنصرة ثورة اليمن عام 1962 ووصل عدد جيشها العامل إلى سبعين ألف مقاتل مع ما قدمت من خبراء لتنظيم الإدارات والوزارات، فإن الكويت قد هبت في ذلك التاريخ لبناء المدارس والمستشفيات، ووقفت إلى جانب الثورة، ونهضت بواجبها القومي وسارت في بناء المدارس من القاعدة إلى القمة، وها هي جامعة صنعاء بكلياتها وأساتذتها ومكتباتها ومعاملها تنطق بما تقدم الكويت لشعب اليمن من عون أخوي نزيه، يضاف إلى هذا مستشفى الكويت في صنعاء، وهو من أرقى المستشفيات في اليمن، تتولى الكويت إدارته والإنفاق عليه، وأشياء كثيرة لا يأتي عليها الحصر، وقد حذا الأشقاء الآخرون حذو الكويت في المساعدة، وعلى رأسهم المملكة العربية السعودية. وقد عقبت على هذه التحية بقولي إن الكويت ما زالت تعتقد أنها مقصرة.

ثم انتقل الحديث إلى الاحتكاك المستمر على الحدود بين اليمنين وقلت ما يجب أن يقال ولا داعي إلى إثباته في هذه الخواطر، محذراً مما يحيكه الاستعمار من دسائس لليمن شماله وجنوبه، وحين هممت بالانصراف قدم إلي الرئيس وسام مأرب، وكانت مفاجأة غير محسوبة، فأنا لا أضع مثل هذه الرموز نصب عيني حين أعمل في أي ميدان من ميادين الخدمة القومية، وأحس الرجل بالحرج الذي أصابني فقال: يجب أن تعلم أني لا أعرفك من قبل فقد كنت أسمع عنك من الكثيرين، فأنا رجل عسكري قضيت السنوات في الوحدات العسكرية، غير أني باسم الشعب اليمني قررت تكريمك بهذا الوسام تقديراً لما قدمت لشعبنا من خدمات، وأرجو أن تقبل التكريم، ولم أجد بداً من قبول تكريم الشعب الذي اعتبرته تكريماً للكويت الحبيبة الغالية، وعدت إلى الوطن وطلبت من المسؤولين أن يتدخلوا قبل أن يتفاقم الخطب، وتدخلت الكويت، واجتمع الرئيسان علي عبدالله صالح وعبدالفتاح إسماعيل في الكويت، ليتفقا على وقف الحملات الإعلامية وتسلل المخربين.

ويجول في ذاكرتي وأنا أكتب هذه الخواطر ذلك المساء الذي أعلن فيه الشيخ جابر الأحمد الجابر الصباح أمير دولة الكويت التبرع ببناء كلية طب عقب المباحثات في صنعاء مطلع عام 1981 وفي اليوم التالي حين كنا في جمهورية اليمن الديمقراطية قال للرئيس علي ناصر محمد لماذا الدوران هكذا حتى نصل من عدن القديمة إلى الساحل المسمى جولدمور أليس بوسعنا أن نشق طريقاً بين الجبال للوصول بسرعة، ففرح الجميع بذلك وأمر الشيخ جابر بتنفيذ المشروع وقد كان.

بعد الانتهاء من اجتماع لدراسة المشاريع التي تنفذها حكومة الكويت في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية قال السيد حيدر العطاس وزير الإنشاءات وأنا في مكتبه بالوزارة القريبة من المطار في خورمكسر: إلى متى تتهيب زيارة حضرموت؟ إن الطريق مبلط إلى المكلا والسفر بالسيارة مريح والطائرات القديمة خرجت من الخدمة، فلدينا اليوم طائرات كندية جديدة ذات أربعة محركات، فأنت تستطيع أن تختار الوسيلة التي تريد. قلت إن شوقي إلى زيارة حضرموت بقسميها الساحلي والداخلي شوق عظيم غير أن حادث الطائرة الذي أودى بحياة خمسة وعشرين دبلوماسيا من بينهم وزير الخارجية قبل سنوات وهم في طريقهم إليها من عدن قد جعلني أؤجل الزيارة، ولا أجد ما يحول دون القيام بها اليوم إن كان الأمر كما وصفت، فتفضل السيد مشكوراً وطلب من كبار موظفي الوزارة أن يتصلوا بمحافظ حضرموت في المكلا ليخبروه بمقدمنا إليه مساء يوم 1982/12/20م عن طريق البر.

وقي الثامنة من صباح الاثنين غادرنا مكتب دولة الكويت في خور مكسر فكنت مع السيد حيدر العطاس في سيارة مرسيدس جيدة، وكان مدير المكتب ورئيس المهندسين في سيارة «جيب» حملت الغداء والماء وعدة الشاي، وبعد أقل من ساعة دخلنا بلدة زنجبار فهي لا تبعد أكثر من ثمانين كيلو مترا إلى الشرق من عدن ذات بساتين ومياه عذبة كثيرة، وبعدها شقرة وهي لا تختلف عن زنجبار في شيء فالأرض خصبة والمياه والأشجار كثيرة، ولا تبعد عن زنجبار بأكثر من أربعين كيلومتراً. وهاتان البلدتان مشهورتان في محافظة أبين ولقد تحدثت وكالات الأنباء كثيراً عن محافظة أبين المحافظة الثالثة في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية أثناء المعارك المفجعة التي وقعت بين الأشقاء في شهر يناير 1986، وبعد شقرة أطلت علينا بلدة مودية وهي على بعد مائتي كيلو متر من عدن، وبعد مودية المحفد ثم النقبة فحبان، وحبان بلدة ذات قصور منيفة متناثرة مبنية من اللبن، وتبعد عن عدن زهاء ثلاثمائة وخمسين كيلو مترا وهي مركز مهم في المحافظة الرابعة، فيها واد كبير فيه زروع وأشجار ضخمة أكثرها من شجرالسدر أو العلب كما يسمى هناك والسمر والعشر متناثر حول تلك القصور وحين رأيت السمر تذكرت قول امرئ القيس في معلقته:

كأني غداة البين يوم ترحلوا

لدى سمرات الحي ناقف حنظل

أما العشر فقد تذكرت الفنطاس في السنين الخوالي ولمع في خاطري قول الحسن بن هانئ.

دع الأطلال تسفيها الجنوب

وتبكي عهد جدتها الخطوب

ولا تأخذ عن الأعراب لهوا

ولا عيشا فعيشهمو جديب

بأرض نبتها عشر وطلح

وأكثر صيدها ضبع وذيب

إلى آخر ما جادت به قريحته من مزح عذب رقيق

ولقد بلغنا حبان في الواحدة والنصف ظهرا فشعرنا بالجوع والتعب والرغبة في الاستراحة، فاخترنا شجرة ضخمة من أشجار العلب، فحططنا طعامنا تحتها وأكلنا هنيئاً وشربنا الشاي بعد ذلك مريئاً، وما كدنا نستعد لمواصلة السير حتى أقبل علينا بدوي شد الخنجر في وسط على إزار ولف على رأسه عمامة ذات ألوان تدلى خلف رقبته أكثرها ونصف جسمه عار لا يستره شيء فسلم علينا وسأل بلهجته البدوية وعباراته العربية الصحيحة من الأخوان؟ فرد عليه السيد حيدر العطاس نحن من هنا من أبناء الجمهورية فضحك البدوي وقال: لستم من هنا أنا وأمثالي من هنا، انظر إلى يدي إنها يد كادح، أما أنتم فلا يظهر عليكم التعب ولا الشقاء، فدهشنا من كلامه واضطر السيد العطاس أن يقول له: أنا حيدر أبوبكر العطاس وزير الإنشاءات وهذا أحمد السقاف المسؤول عن المساعدات المقدمة من حكومة الكويت لبلادنا، وهذا مدير مكتب دولة الكويت في عدن وهذا مساعده رئيس المهندسين في المكتب فرفع يده إلى رأسه وهو يقول الكويت على رأسي هي الدولة الحبيبة لقد وقفت إلى جانبنا من أول يوم رحل فيه الإنجليز بنية صادقة صافية، فتملكنا العجب من ذكاء هذا البدوي ووعيه وهو في مكان ناء عن المدن كهذا المكان.

ثم طلب منا بإلحاح أن نكون ضيوفه على الغداء، فلديه شاة يستطيع أن يذبحها ويشويها في ساعة واحدة، فلن يطول بنا الانتظار، ولن نتأخر كثيراً إذا ما قبلنا الدعوة، فشكرناه وأطلعناه على بقايا الأكل فأسف كثيراً على ضياع فرصة الضيافة فودعناه شاكرين، وانطلقنا نحو قرية ابن سعد ثم قرية الغرير وفيها واد مزحوم بمراعي الإبل وأشجار النخيل ثم إلى عزان وميفعة وكلها في المحافظة الرابعة إلى الشرق من عدن بمحاذاة البحر العربي ذي الساحل الرملي النظيف الجميل الخلاب ومررنا بعين بامعبد وهي قرية ذات مياه حلوة ونخيل وزروع وإن كانت الرمال قد زحفت إلى أكثر البيوت ومنها إلى قرية بلحف وكانت في الماضي عاصمة السلطان الواحدي، وهي تقع إلى يمين المسافر إلى المكلا، حولها جبال بركانية سوداء ثم بلغنا حصن الغراب وهو جبل بركاني داخل البحر قرب نهاية المحافظة الرابعة فيه بيوت قديمة منحوتة يتصل طرفه بالبر والمنطقة كلها أحجار سوداء لا نبت فيها.

وكانت بئر علي على الحدود الوهمية الفاصلة بين المحافظتين الرابعة والخامسة، وبئر علي قرية صيادين تنتهي عندها المحافظة الرابعة وتبدأ بعدها المحافظة الخامسة حضرموت ذات التاريخ العربي الضخم!

وعلى بعد ستين كيلو متراً من المكلا قابلتنا بلدة ميفع حجر وهي تشرح الصدر بأشجارها ومراعيها وكثرة البطيخ فيها ووادي حجر الشهير يمر في هذه البلدة وفيه أكثر من نصف مليون نخلة والبلدة عامرة تدب فيها الحياة وقد اشترينا من سوقها ثلاث بطيخات ومشينا على الأقدام قليلا بين بائعي الفواكه في ذلك الوادي الجميل لنريح أجسامنا بعد عناء ركوب السيارة وإن كان ذلك العناء قد مر دون أن نشعر به بفضل محاضرة عن الإسلام والدولة، فلقد دارت الأحاديث حول المحاضرة بيني وبين السيد العطاس بعد أن انتهى شريط التسجيل، وبعد ميفع حجر وصلنا وادي فوة، وفيه مستشفى كبير نهضت ببنائه وتجهيزه دولة الكويت وهو من مشاريع الهيئة العامة للجنوب والخليج العربي يعرف بمستشفى المكلا العام، وبقرب المستشفى معهد تجاري وكلية للمعلمين يبنيهما البنك الدولي، ولم نتوقف لمشاهدة المستشفى فقد كان متعبين فأجلنا زيارته إلى صباح اليوم التالي ونزلنا دار الضيافة في الرابعة والنصف مساء، وتقع الدار على قمة ربوة عالية وقد بنيت حديثاً، وهي تطل على البحر العربي وتبعد عن مدينة المكلا بضعة كيلومترات وفيها خدمة جيدة وطعام جيد، وكان في استقبالنا محافظ حضرموت الأخ محمد علي باشماخ وهو شاب مهذب لاقى الكثير من الشدائد أيام حكم سالم ربيع علي وكان معه أيضاً الأخ صالج بازنبور مدير الخدمات الصحية في حضرموت وقد تخرج في جامعة بغداد ودرس في بريطانيا بعد ذلك وهو مرح خفيف الظل يجيد الرقص الشعبي إذا ما رن العود بأنغامه الشجية، وبعد قليل من الاستراحة في مبنى الاستراحة خرجت مع الأخ المحافظ في سيارته لمشاهدة مدينة المكلا في الليل، والمكلا محصورة بين جانبي خور صغير تحول دون اتساعها وامتدادها الجبال من الجانبين، وفي التاسعة عدنا إلى الاستراحة للعشاء وبعدها قصد كل واحد منا حجرته للنوم فقد تعبنا كثيراً أثناء النهار.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى