عناقيد الغضب

> عبدالباري طاهر:

> يعود ذيوع التسمية لرواية السارد الامريكي الشهير جون شتاينبك. يترصد فيها الأزمة الشاملة في امريكا بين الحربين الكونيتين. وقد استمد الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل التسمية أو جزءا منها في كتابه (خريف الغضب) عن فترة حكم الرئيس أنور السادات.

والعناقيد أو الخريف لا يأتي بغتة، أو فلتة أو صدفة، ففي اليمن بدأ تراكم السحب الداكنة والظلامية مع الأزمة القديمة الجديدة في مرحلة ما بعد الوحدة.

وكان الاحتكام إلى الاغتيال السياسي، الذي طال ما يزيد على مئة وخمسين غالبيتهم العظمى من الحزب الاشتراكي، قد بدأ بشهيد الديمقراطية الأول حسن الحريبي، العضو القيادي المؤسس في حزب العمل، وفيما بعد في حزب التجمع الوحدوي. وللإنصاف فقد قتل قبله إمام مسجد في صنعاء بجوار بيت الرئيس يدعى المحرابي، عضو التجمع اليمني للإصلاح تم السكوت عنه لأن «عناقيد الغيلة» كانت تشكل باتجاه مختلف.

سكت الإصلاح عن قتل المحرابي وسط المحراب لأنها «نيران صديقة»، أما الاشتراكي وحلفاؤه فلم يقفوا أو لم يستطيعوا مواجهة غول الاغتيال ليفتح الاغتيال السياسي الباب واسعا أمام حرب 94م. طار الاغتيال كوادر من مختلف مناطق اليمن: الحريبي- رداع، ماجد مرشد- تعز، الحوثي- عمران، علي جميل- عيال سريح، وكان الهدف الاشتراكي أو بتخصيص أدق الجنوب، ومشاركة الجنوب. الاغتيال والحرب استهدفا إقصاء الجنوب وقيادته من المشاركة.

لا شك أن التفرد والاستفراد كانت حاضرة فكان الاغتيال السياسي مقدمة للحرب وبوابتها الكبرى، وكانت الحرب بداية الكارثة.

تشابكت في الوحدة عدة خطوط وأغلقت الطريق على إمكانية التطور الديمقراطي، وبناء دولة عصرية ديمقراطية وحديثة، وكانت القسمة على اثنين خطأ لأنها فتحت شهية قابيل لقتل أخيه هابيل، ولم يك هابيل غير «الشريك الجنوبي» أولا، ومن ثم الشمال ثانيا.

ولأن التوراة ترى أن الله خلق آدم على صورته فإن الحاكم أيضا يريد أتباعه وشركاءه ومحازبيه على صورته، فإنه في حمى الاغتيال والقتل يستعيد الحاكمون أخس ما في أنفسهم ومجتمعهم. فالطائفية والقبلية والجهوية وسلاح الدين والثأرات ابتداء من ايل وتر وشمر يرعش ووصولا إلى حربي 72 و79 م قد احتشدت في معركة لا هدف لها غير إقصاء الجنوب والعودة بالأوضاع إلى ما قبل الـ 22 من مايو 90م.

وإذا كانت (الاغتيالات) قد ماهت بين الدولة والعصابة، أو أنها منحتها أهم خصائصها فإن الحرب قد ارتدت باليمن إلى منطق الغلبة والقوة، وماهت بين الدولة والقبيلة. أي أنها عادت باليمن سيرتها التي لم تفارقها إلا لماما. حرب 94م قطعت الطريق على التوحد الطوعي والاختياري، وجعلتها - أي الوحدة- احتلالا واستعمارا داخليا، فالحرب وإن وظفت المقدس الديني والوطني لم تستطع إخفاء الطابع القبلي والثأري والطوائفي.

سهم الاغتيال الذي أريد له تحريك دولاب الحرب لم يتوقف حتى بعد انتهاء الحرب، فقد طال الاغتيال جار الله عمر ويحيى المتوكل ومجاهد ابو شوارب وعشرات هنا وهناك، ولا يزال الحبل على الجرار. أما الحرب (حرب 94م) فإنها وإن توقفت إلا أنها قد نسلت من رحمها الأشأم والولود - كمنطق الشاعر الجاهلي- أكثر من أربعمائة حرب في اكثر من منطقة، ولا يزال منطق الحرب وهاجسها هو ما يحكم نهج الحكم وسياساته.

عندما تختلط الإرادوية «بالمطامح» والمطامع والرغبات بالأماني فإنها تستطيع طمس قطيعة استمرت 137 عاما بين الشمال والجنوب، وتحويل المطامع الممزوجة بالأماني إلى مقدس وحقائق وثوابت.

استفاد الحكم في صنعاء من تجربة صدام حسين في أنفاسه الاخيرة في مزج الديني بالقبلي، والاستعلاء الطوائفي بالعصبية العشائرية، وتبقى الجهوية والطوائفية والقبائلية وحتى السياسية: مؤتمر شعبي، اشتراكي، كلها أقنعة زائفة تخفي وراءها رغبة محمومة في التألّه والاستفراد، ولعل التململ الواصل حد التمرد والحرب في الشمال والجنوب على حد سواء يعكس عمق الأزمة التي طالت بعض أركان الحكم، ولعل في بيانات قيادات مؤتمرية حول براءة المؤتمر من الحكم ما يشهد أن حلبة الطرد والصراع قد اتسعت بمقدار ضيق دائرة الحكم، وتمركزها في يد أو أيد قليلة.

تشكل عناقيد الغضب في سماء اليمن كلها، وتتمحور في صور حرب معومة في صعدة، ونذر حرب تلوح من أكثر من مكان واحتجاجات ومظاهرات واعتصامات تعم الجنوب وتمتد إلى مناطق مختلفة.

ويحاول الحكم جاهدا عسكرة الحياة كلها، وإغلاق سبل وأساليب الاحتجاج المدني والسلمي، فالحرب «حقيقة الله العظمى» التي طالما انتصر بها ولها الحكم، وهي الإرث الوبيل الذي لا يتقن الحكم ولا يجيد سواه، فهو يقابل حرية الرأي والتعبير بالاختطاف والاعتقال والتهديد بالقتل: عبدالكريم الخواني، أحمد عمر بن فريد، أو الاعتداء بالضرب المبرح: الدكتور علي الفقيه، أو الاعتقال: أحمد القمع وطال التهديد العشرات: عبدالرحمن خبارة. وقبلها هدد عميد «الأيام» ورئيس التحرير هشام باشراحيل وصبري بن مخاشن، رئيس تحرير «المحرر» وسكرتير تحرير «النداء» ومحمد الغباري مراسل «البيان» الاماراتية كما أن مدن الجنوب تحولت إلى ميادين صراع ومعتقلات تشمل العشرات.

لقد سبق الحكم بريمر في حل الجيش والأمن والوظيفة العامة في الجنوب، ومع ذلك فهو ينتقد بريمر غير مدرك أن ما فعله في الجنوب اسوأ بكثير مما فعله بريمر في العراق، فبريمر لا يمكن أن يحكم بغداد إلا بالحديد والنار، وإلغاء إرادة العراقيين، أما الحاكم المنتصر على شعبه فإن المشترك الديني والوطني والقومي واللغوي يجعل ظلمه أشد مرارة وقسوة وغبناً فهو ظلم ذوي القربى كرؤية الشاعر الجاهلي.

ما يجري في الجنوب يؤسس لتحول مهم في المنطقة كلها، فهذا الجزء من الوطن العربي يمتلك تقاليد مدينة عريقة وتقاليد ديمقراطية وتجربة زاهية في حرية الرأي والتعبير. والاحتجاجات اليمنية بعامة والجنوب «ميدان الحرب» وضحية تعميد الوحدة بالدم بخاصة ترد بصورة مختلفة وتؤسس لخروج على الحكم غير مسبوق، ويقينا فإن السلاح لا يستطيع الاجابة على اسئلة نهب اراضي الجنوب، وسرقة المال العام، وإلغاء جيش وأمن ووظيفة تصل إلى ستين الفا، كما لا تستطيع حل معضلات ازمة المياه الخانقة والجوع الذي يتجاوز الـ 50 % والبطالة المتفاقمة والتضخم، فاليمن مهدد بالفساد والاستبداد اكثر من اي معارضة مدنية أو عسكرية، فالفساد والاستبداد ينخر في جسم النظام، ويدفع باتجاه معارضة واسعة وعريضة من مختلف الافق المجتمعي والسياسي وإلى المواجهة الشاملة مع نظام يمسك بكلتا يديه مفاتيح القوة والمال والاعلام ويسيس الوظيفة وينهب الأراضي ويسرق لقمة الخبز الكفاف من الافواه.

يفسر علماء الاجتماع والسياسة الازمة الشاملة بعجز الحاكمين عن الاستمرار في الحكم بالطريقة التي اعتادوا عليها، ويبدو أن حكم الغلبة والقوة اصبح شبه مستحيل في ظل تراجع الموارد وشحها، وتفاقم المشاكل، وتزايد الاحتجاجات المجتمعية، وتعاظم الفساد والاستبداد اللذين يخلقان معارضة من كل لون وشكل. وتبقى الاحتجاجات المدنية هي الاقدر على تحدي حكم الغلبة والقهر، وغول الفساد والاستبداد.

ما كان مصدر قوة بالأمس يصبح مصدر ضعف اليوم، فالانتصار بالقوة في مواجهة الكلمة والرأي وفي التصدي للاحتجاجات المدنية والسلمية هو المستحيل عينه.

والأخطر منه محاولة حل قضايا التنمية والبناء والاندماج الوطني وتوفير مياه الشرب بالسلاح، أو الإجابة على اسئلة الجوع ومطالب الاصلاح السياسي، ومعالجة قضايا الحرب الكريهة ضد الجنوب بالاستنفاع في الحرب نفسها. وعندما تعلن الدولة الحرب على شعبها تكون قد عمدت وثيقة زوالها بالدم الذي تسفكه.

أليس فاجعا أن يدق إعلام الحكم طبول الحرب على متظاهرين عزل يتظاهرون من اجل لقمة الخبز الكفاف وماء الشرب وإصلاح ما أفسد الحكم نفسه؟ كعب أخيل في موقف الحكم الاحتكام إلى القوة والحل العسكري والامني لقضايا سياسية ومجتمعية ومطلبية. ومجمل سياساته الرعناء منذ حرب 94م قد عمقت الانقسام بين شمال وجنوب، ودفعت بأبناء الجنوب إلى ما يشبه التمرد ضد عسكرة الحياة وتزيين صورة الاستعمار في وجدان وعقول من حملوا السلاح ضده بالأمس، فالفساد والاستبداد المدججان والمحميان بالعنف يفتحان أبواب التصارع إلى ما لا نهاية. صحيح أن الموقف الدولي هو ما يتهدد الوحدة والكيان اليمني برمته، كما أن الاستمرار في طريق الحل الامني والعسكري سيقود حتما إلى العرقنة وإن بأيدٍ «وطنية»، أو إلى السودنة وهو الحل الامثل في عقلية الحكم. وإذا كان العنف مقتل السلطة وداءها الوبيل فإن جنوح الاحتجاجات إلى العنف أو الاستجابة له أو الرهان على خلق عداوة بين الشمال والجنوب كما يفعل الحكم ويمارس أو المبالغة في الرهان على الموقف الدولي ومكائد الجوار لا يخدم التأسيس لشرعية حكم ديمقراطي يفتح ابواب التصارع إلى ما لا نهاية، صحيح أن الموقف الدولي وربما العربي قد يكون استشعارا بمخاطر التصارع بجوار آبار النفط، وله مصلحة في استقرار الاوضاع وعدم امتدادها إلى المحيط، ويبقى الاهم «إقناع» الحكم بعدم جدوى إعلان الحرب ضد شعبهم أو جزء منه وضرورة العودة للحوار، ومعالجة كوارث حروبها المستدامة في الجنوب وصعدة، فلا سبيل سالكا وآمنا غير الحوار، والنزول على إرادة الناس، فمعاناة الناس وعذاباتهم هي التي تصنع عناقيد الغضب في أشجار الحياة اليمنية.

بقي أن أشير إلى أن الدولة المهجوسة بالحرب ضد الارهاب في تحالف دولي يضعها على قدم التناد مع امريكا تنسى أن حربها ضد الإرهاب «عدو العلن صديق السر» ممتحنة بالحرب ضد مطالب الديمقراطية والاصلاح الشامل ومعالجة آثار الحرب وثمارها المرة، وعندما تقوم باختطاف الصحفيين وقادة الرأي فإنها تشرعن الاختطاف وتنزل على حكم العصابة ونهجها. واختتم بمقطع للعزيز المبدع فتحي ابو النصر:

الثيران تزدحم، والحلبة تضيق

ونحن ضحايا المربع من الهياج

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى