مدينة الراهدة بين أكوام القمامة وانقطاعات الكهرباء وضجيج الدراجات النارية

> «الأيام» أنيس منصور

>
مدينة الراهدة هي إحدى مدن مديرية خدير بمحافظة تعز، مساحتها وسكانها أكبر من عواصم بعض المحافظات، وهي ذات تجمعات سكانية ضخمة تتوسط مديريات الصلو وحيفان والقبيطة وماوية، وتعد مركزا تجاريا هاما لهذه المديريات تشتهر بأسواق متنوعة وبعض الحرف اليدوية المتوارثة عبر الأجيال.. كانت الراهدة آية في الجمال والروعة بأهلها وخضرتها ومراعيها، احتضنت المناضلين والقادة، وتغزل بها الشعراء وغنى لها أيوب طارش «يا راهدة يا ملتقى الأموال والتجارة».. لكن تلك الملامح القديمة تغيرت تماماً فهي اليوم مليئة بمشاهد كريهة وحياة مريرة، إذ تتكدس القمامة في كل شبر من الارض، ويحل الظلام الدامس ضيفا عليها كل يوم، ويتعالى فيها ضجيج الدراجات النارية.. هذه هي مصائب الراهدة التي قال عنها الأديب الشاعر نجيب القرن ذات مساء رمضاني مظلم إنها ثلاثية النكد لمن يسكن وينزل ضيفاً على الراهدة .. نترككم مع تفاصيل ثلاثي النكد في هذا الاستطلاع.

حارات تغرق بالقمامة

تتوزع وسط حارات ومنازل الراهدة خمسة مقالب رئيسية تجميعية للقمامة على شكل أكوم كبيرة تصيب كل من يمر بجانبها بالدوار والإغماء، الأول مقلب سوق المواشي وتحيط به منازل ومحلات تجارية وورش وأحواش، وقد أفسد على الناس معيشتهم، ويلوث الهواء عند إحراقه.. وناشد المواطنون المتضررون بنقل مقلب القمامة إلى موقع آخر. والثاني مقلب مدرسة الثورة الابتدائية، الذي يقول عنه الطالب أيمن عبدالحكيم العريقي: «والله إننا منزعجون جداً من تراكم القمامة بجانب الفصول الدراسية، نغلق النوافذ ونعمل الاحتياطات حتى لا تصل إلينا الروائح الكريهة العفنة، والشيء المزعج رمي الحيونات الميتة ومخلفات الأسماك والدجاج والمعلبات الفاسدة، ونعمد أحيانا إلى قبض أصابع اليد على الانف طيلة اليوم الدراسي».

وأثناء الحديث مع الطالب استوقفنا أحد المعلمين (رفض الإشارة إلى اسمه لأن ذلك سوف يعرضه لعقوبات) قائلاً: «تكلمنا كثيراً وصرخنا، وتقدمنا بشكاوى وسبق لـ«الأيام» نشر خبر عن القمامة بجانب المدرسة موثق بالصورة، لكن المسؤولين تجاهلوه وكأن الأمر لا يعنيهم.. استخدمنا العطور والروائح الطيبة لكن رائحة القمامة كانت أقوى».

المقلب الثالث هو مقلب سوق الأسماك، يقول علي المحور، أحد الساكنين على مقربة من هذا المقلب: «العيش هنا ضنك والسبب (مشيراً بيده نحو القمامة) أن الكلاب والقطط تأوي إلى هذه القمامات وتصدر أصواتاً تزعج الساكنين». وأثناء تصوير المقلب تجمع حولنا المواطنون علي حسن سالم وأحمد عبده سالم وهزاع أحمد قاسم ويحيى عبدالباقي، وقدموا شكوى مذيلة بتوقيعاتهم قالوا فيها: «هناك إهمال وتسي.

وقد تسبب لنا مقلب القمامة في أمراض متنوعة بعد أن انتشرت حوله أسراب من الذباب والبعوض، تقدمنا بشكاوى للمجلس المحلي ومسؤولي صندوق النظافة لكنهم جعلوا أذناً من طين وأخرى من عجين.. والسؤال المطروح أين تذهب إيرادات صندوق النظافة والتحسين؟». المقلب الرابع يقع في حارة الدياني، ومساحته واسعة، ويلاصق عدداً من المنازل، ويفاجأ المار بجانبه بمناظر لا تسر ويشتمّ العفونة من على بعد، وكنا نتمنى أن يتحدث أحد مواطني الدياني لكنهم رفضوا لأن «الحديث للصحف سيترتب عليه مضاعفات، وبالمقابل سيكون هذا الاستطلاع مجرد سحابة صيف في آذان وعيون جهات الاختصاص».

«الأيام» رافقت خمسة من الأطباء الالمان ضمن بعثة ألمانية لمستشفى الراهدة، وأثناء مرورهم بأحياء وحارات الراهدة عبروا عن استغرابهم الشديد كيف يعيش الناس وسط القمامات التي تملأ حواري الراهدة وشوارعها، واقترحوا القيام بحملات نظافة وإشراك طلاب وطالبات المدارس في هذه الحملات ورفع شعار «من أجل مدينة خالية من القمامة».وبالإضافة إلى هذه المقالب هناك مقلب حارات المستشفى وكثير من أماكن تجيمع القمامة التي لم نصل اليها نظراً لاتساع مساحة مدينة الراهدة.

الحديث عن تردي أوضاع النظافة وعن مجاري الصرف الصحي وطفح المجاري بجانب متجر الإخلاص وميدان الدراجات النارية في مدينة الراهدة بحاجة إلى تحقيقات وأخبار صحيفة متتابعة، فمهما جمعنا وحشدنا من ألفاظ فلن نستطيع وصف معاناة أهالي الراهدة وصفاً دقيقاً.وقد تم التواصل مع أمين عام المجلس المحلي بخدير الأخ منير عبدالعليم الصلاحي، الذي اكتفى بقوله: «تردي أوضاع النظافة أكبر مشكلة تؤرق الراهدة، وذلك لوجود سيارة واحدة فقط لتجميع القمامة في الدمنة والراهدة، وقد أقر المجلس شراء سيارة أخرى لجمع قمامات الراهدة وإن شاء الله تحل مشكلة النظافة»

.الكهرباء.. انقطاعات يومية

تتكرر يوميا انقطاعات التيار الكهرباء، وتصل أحياناً فترة الانقطاع إلى خمس ساعات متواصلة تتعطل معها أعمال الناس في العيادات والمؤسسات والورش وكل ما هو مرتبط بالتيار الكهربائي، إضافة إلى ما يتكبده المواطنون من خسائر مادية وأعطاب في أجهزتهم المنزلية جراء التشغيل المفاجئ.. لقد أضحى ملسلسل (طفي لصي) بالراهدة هماً يؤرق القاطنين.. قال نجيب عبدالقادر الفقيه: «نحن موعودون بالطاقة النووية، ونحن لا نريد نووية ولا يحزنون يكفي أن يمتنعوا عن قطع الكهرباء كل يوم».

ويصف الطالب كمال سالم علي مدينة الراهدة في وقت انقطاع الكهرباء قائلاً: «الراهدة أشبه بمقبرة الأموات يستوحش فيها المتسوقون فلا ترى إلا ظلمات فوق بعضها لا يدري أحدنا كيف يقضي أغراضه وإلى أين ينطلق، وفي وقت انقطاع الكهرباء يجدها اللصوص والصعاليك فرصة للسرقة» وضرب كمال مثلاً بتلفونه الجوال الذي تم سرقته عند انقطاع الكهرباء.

وفي عمارات الراهدة القديمة التقينا بامرأة مسنة تدعى شاذية عبدالقوي الصلوي وطلبت بإلحاح: «فضح الذين يستخفون بعقولنا في انقطاعات الكهرباء» وقدمت لنا ورقة مذيلة باسمها احتوت على عبارات السخط والشطط ضد تصرفات القائمين على محطة الكهرباء.

ورصدت «الأيام» خلال الجولة عددا من البقالات والأفران والمؤسسات والمحلات التجارية تستخدم مولدات كهربائية خاصة، وذكر المواطن أسامة فارع العبسي أن هناك اقبالاً واسعا على شراء الشموع والفوانيس، بل أصبحت من الضروريات الأساسية لكل منزل مثلها كمثل السلع الأساسية، وأصبح من العيب والعار أن يخلو بيت من الشموع في الراهدة.. وأفاد المواطن مجيب سيف البدوي أن الانقطاعات ليست في وقف واحد، وهناك اختلاف في توقيتها فأحياناً في الليل وأحياناً صباحا، وفي رمضان كان الانقطاع في وقت السحور والفطور. وقال الحاج ناجي هزاع مرشد: «إن الشمع تأصل في حياة مواطني ومواطنات الراهدة إلى حد أن ما يقارب خمسة من أهل حارة الحبيل أسموا مواليدهم الجدد بأسماء تلامس معاناتهم وهمومهم في انقطاعات الكهرباء مثل (شمعة، شعلة، مشاعل، فانوس)».. وغدت انقطاعات التيار الكهربائي قضية ليس لها حل ويتمنى أبناء الراهدة أن يمر عليهم يوم يمر بسلام دون أن ينقطع التيار الكهربائي.

النوم بعيون مفتوحة

تزدحم شوارع الراهدة بمئات الدراجات النارية، التي تصدر ضجيجا وأصواتا مزعجة وتجر خلفها الدخان المتطاير في السماء على هيئة سحب سوداء تلوث الهواء وتفسد المعيشة، فلا صوت يعلو في الراهدة فوق صوت الدراجات النارية، ولا يجد الناس طعما للنوم والاسترخاء بسبب الأصوات القوية .

إنها حياة مليئة بالمنغصات أينما ذهبت تتفاجأ بطوابير من الدراجات بكل أنواعها قديمة وحديثة، تسير وأصابعك في أذنيك، تستنشق هواء ملوثا مصبوغا بالسواد.. الكل أجمع أنه لا حياة بالراهدة مع هدير الدراجات النارية.

عشرات الشباب الذين التقت بهم «الأيام» عاطلون عن العمل فلجؤوا إلى تأجير الدراجات النارية يومياً لتوفير لقمة العيش في ظل ارتفاع الأسعار.. يقول أنور غالب الهجر متبسما: «إلى أين نذهب، نحن نجاهد لتأمين عيشنا، وكل دراجة تكفل أسرة فقيرة».

ويرى عدد من الساكنين وفي مقدمتهم صدام عبدالله يوسف الحريبي ونبيل عبده العريقي ومرتضى قائد أنعم أنهم مع طلب الرزق وليسوا ضد عمل الدراجات النارية وخدماتها، لكنهم يتمنون وضع ضوابط للعمل، بحيث يمنع بعد العاشرة مساءً دخول الدراجات المزعجة، وتخصص أماكن ومواقع محددة لتواجدها تفادياً للزحام، وفرض غرامة ضد المخالفين.. فيما قدم عدد من المواطنين المنزعجين من ضوضاء الدراجات النارية مقترحاً بتشكيل لجنة برئاسة الشيخ محمد منصور الشوافي، وكيل محافظة تعز، لأنه الوحيد الذي يستطيع معالجة المشكلة، وإشراك المجلس المحلي وقسم الشرطة وعقال الحارات لوضع خطة وتوزيع ملصقات إعلامية وجدول زمني لمنع دخول الدراجات ليلاً.

لقد أصبح نوم أبناء الراهدة بعيون مفتوحة، وتزداد معاناتهم ليلاً ونهاراً.. سحب وضوضاء وأصوات مجلجلة الصدى لا يعرف معها مواطنو الراهدة الهدوء والسكين.

إلا عندما يخرج أحدهم إلى البراري والأرياف.. الراهدة اسم أشهر من نار على علم، وهناك مظاهر دنست عفتها مثل انتشار السرقات بكل طرقها وأنواعها وإقبال الشباب على تعاطي الحبوب المخدرة والحصول عليها من بعض الصيدليات الخاصة، وبيع الأدوية المهربة والمقلدة، وجعل مهنة الطب وسيلة للربح السريع على حساب المرضى الفقراء والمعوزين مع عدم توفر الخبرات الكافية، بالإضافة إلى ظهور الشعوذة والسحر.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى