مرة أخرى..استقلال الجامعة

> أبوبكر السقاف:

> كانت الوظائف العامة في الصين القديمة تشغل بعد عقد امتحان مسابقة تقرر نتائجها من الجدير بالوظيفة، وهذا جانب من فلسفة كونفوشيوس في بعدها الإداري - السياسي، كما أن التعليم نفسه كان يتسم بالنزعة الديمقراطية، قبل أن يصبح هذا مطلباً سياسياً في الدولة الوطنية في أوروبا الحديثة لبناء الدولة - الأمة، انطلاقاً من جعل الوطنية أيديولوجيا المجتمع والمصلحة حافزاً و العقلانية منهجاً.

وكان العلماء يجازون في الهند القديمة واليونان وفي المجتمعات العربية الإسلامية في عصرها الكلاسيكي الزاهر بوساطة مشايخهم في العلم، كما أن الانتداب للعمل العام كان يجري داخل التجمعات المدرسية المعترف بريادتها وكفاية أفرادها علماً وخلقاً. ولكن مع تدهور دول المراكز الحضارية العربية الإسلامية أصبح العالم ملحقاً بدولة الجند أو بالسلطان. وعرفت بلاد اليمن حتى أيام الراحل أحمد نعمان مبدأ الإجازة، وقد أورد ذكرها في مذكراته عن فترة دراسته في زبيد، كما أن هذا الأسلوب كان قائماً في حضرموت، ولاتزال آثاره «تلوح كباقي الوشم..» في حياتنا الثقافية.

جاء الإلحاق الكامل للجامعة بأجهزة الدولة مع دولة السيد الانقلاب، الذي طبق بصرامة أسلوب العمل في الجيش عليها فاختفت المسافة بين الجامعة والمعسكر، وأول النتائج قيام كل اختبار على أساس المفاضلة بين أهل الثقة وأهل الكفاية، التي دمرت الجامعة ومعها وقبلها وبعدها الجيش والإدارة، أي بنيان الدول كله، ومن هنا توالي الإخفاقات والخيبات، وأخطر منها التدهور والنكوص المستمر نحو الماضي وسقط الوسط الجامعي في عامية قاتلة من حيث مستوى التفكير لاسيما في القضايا التي تتعلق بمصير الأمة، وأصبح الصراع والتنازع على الأمور التافهة والمتعلقة بالإدارة والمال والامتيازات هو الشغل الشاغل، بينما يتسم الوسط الجامعي السوي بأن أساس الخلاف أو الاختلاف فيه له طابع علمي أخلاقي بامتياز، لأن المرء لا يعبد صورته في العلم بل العلم في نفسه وعقله وكيانه كله، وعندئذ فقط، ففي المسعى الأول حتى عندما يكون صاحبها كفياً تطغى النرجسية متفاوتة في مستوياتها المرضية، وفي الثاني يتشارك الزملاء في البحث عن الحقيقة وسبل ترشيد الأداء العلمي والتربوي.

إن أكثر المشاهد إثارة للحزن في دنيا العرب يتمثل في «كدر العيش خارج التاريخ» كما يقول أحد أبطال اورهان باموك في روايته ثلج. ويتشارك العرب كافة في هذا الكدر ولكنه يبدو فاقعاً وفاجعاً في بلد عربي يحاول النهوض منذ قرنين: مصر.

ومن بين أسباب هذا الفشل التاريخي إخفاق مؤسسات العلم والتعليم وتراجع حركة التنوير، ثم تضييع رأس المال المؤشري للثقافة والمثقف لصالح داعية القطيعة الحضارية مع الغرب أي العصر. ويبقى السبب الأساسي: عدم ظهور حامل تاريخي للتحديث يكون العلم عند مطلباً اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً يبتلور في إطار مشروع نهضة وثورة.

يصعب قبول رأي طه حسين في الانتماء والمصير الحضاري لمصر الذي بسطه في مستقبل الثقافة في مصر، وأراد به تحقيق الاستقلال الثقافي بعد الاستقلال السياسي الذي ربطه بسياق أوربي وأوسطي ثقافياً وفكرياً، ومصر قد تعربت بصورة حاسمة منذ القرن الرابع الهجري كما أثبت الراحل صبحي وحيدة في كتابة العمدة: «في أصول المسألة المصرية» 1950م. ولكن لا يمكن الاختلاف معه على تصوره للتعليم العالي ودوره، وهذا التعليم هو الذي عانى من الإدارة العسكرية للسلطة الجديدة بعد «حركة الجيش المباركة» (محمد نجيب)، وكان طه حسين وزيراً للمعارف في حكومة الوفد صاحب الأغلبية في البرلمان في آخر حكومة منتخبة في مصر 1952-1950، ظهرت الأسلاك الشائكة والضباط والحرس الجامعي والرقابة في حياة الجامعة.

لم يتناول طه حسين في كتابه تفاصيل التعليم العالي وأعفاه من التوصيات والمقترحات التي يزخر بها الكتاب في ما يتعلق بالتعليم العام، وذلك لأنه يعتقد اعتقاداً راسخاً بأن الجامعات يجب أن لا تخضع لرقابة الحكومة أو لتوجيهاتها ، لأن أساس دورها وطابع وظيفتها يقوم على التمتع بالحرية الكاملة، حرية مالية للتصرف كما تشاء بمخصصاتها، وحرية علمية (أكاديمية) في كل ما يتعلق بالعلم والتعلم. ومن الواضع أن تصوره لهذا التعليم وللتربية كان إنسانياً، ولذا فالجامعة قبل كل شيء مجتمع فكري قائم على المودة والتعاون والصداقة والتضامن.

وعندما يغضب العرب من أنهم وجامعاتهم رغم تكاثرها مثل الفطر بعد يوم يطير لا وجود لهم في قائمة المائة أو قائمة المئات الخمس من الجامعات المتميزة في العالم، عليهم أن يتذكروا صورة الجامعة في حلم الراحل طه حسين، ووفقاً لهذه الصورة الجامعة ليست مصلحة حكومية، والأساتذة ليسوا في عداد الموظفين إنهم بالتعريف الجامعة، وهي مجتمع فريد حقاً عندما يكون جديراً باسمه، وبداية البدايات الظفر باستقلالها فهو علة وجودها، ومعه تدور وجوداً وعدماً، وبدون هذه البداية لا توجد وظيفة حقة ولا دور كريم ونافع.

يجب أن تكون المطالبة والعمل على تعديل قانون الجامعات 1995، الذي كان إحدى ثمار الحرب أول واجبات أعضاء هيئة التدريس بالجامعة والطلاب والطالبات. لأن الدوران داخل شروط الوضع القائم استمرار لإلغاء دورالجامعة واستخفاف بالعلم وحملته وعليهم ان يثبتوا أنهم جديرون بدور آخر ومكان آخر ورسالة أخرى.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى