الحاضر لن ينقذه الماضي

> علي هيثم الغريب:

> أجل، نحن كتاب الجنوب، لم نكن يوماً ما نواباً للشعب عبر صناديق الاقتراع ولكننا قدمنا للقيادة السياسية بصدق ووضوح وصبر وبلا تحفظ - خلافاً لكثيرين من صحفيي السلطة- حساباً خطيراً عما يجري في الجنوب ودفاعاً عن الوحدة التي لم تبنى دولتها حتى الآن.

وها هو الأخ اليماني في مقاله المنشور في صحيفة «الأيام» العدد(5244) تحت عنوان (ما أشبه الليلة بالبارحة) وبدهاء يريد أن يوصل الاحتقانات إلى مداها ويدخل المسئولين عنها التاريخ كقادة ينهار في عهدهم الوطن.. بل ويجعل من الماضي الموضوع الهام والمركزي أمام القيادة السياسية.

هذه الكتابات غير المعقولة يتراجع أمامها كل ما هو منطقي ومعقول.. فالماضي قد انتهى بفقره وبهائه، مآثره وجرائمه، عاره ومجده.. وهناك من يندبه ومن يشتاق إليه.. ويلح البعض بدعوة الماضي، كما يلح البعض الآخر في دعوة المستقبل، ولكن الفريقين مجمعان على الخوف من العيش في هذا الحاضر ويسعيان إلى إصلاحه.

فاليوم، ونقولها بنقاء عربي، إنه ليس من السهل، بل من المستحيل تقريباً أن نتصور ماذا كانت تعني أعوام -1967 1990م بالنسبة لأبناء الجنوب في ذلك الوقت.. ولا حدّ للتفاصيل الإيجابية عن تلك المرحلة، أما السلبيات فقد ذكرها الاشتراكي قبل غيره مع أنها لا تقاس حتى بـ 5% من سلبيات الأنظمة المتعاقبة من صنعاء.. ونأبى أن ندخل لنقلب صفحاتها السوداء.. ولم نطرح نحن أبناء الجنوب منذ الاستقلال الوطني وحتى اليوم لحم الأمة وتاريخها للبيع في أسواق النخاسة، قطعة بعد قطعة.. وتضحياتنا التي لاتنكر أديناها بشرف ووجهاً لوجه ومات شهداؤنا وليس في رقابهم (شروى نقير) لأحد.. حتى الذين اختلفوا مع النظام الاشتراكي تركوا وطنهم الجنوبي وعاشوا شرفاء، ولم تكن- رغم ألمهم- ألفاظهم إلا صدقاً وإصلاحاً، ولم يكن كلامهم يوماً سباباً.

ذلك بعض ما جعل الجنوب يعرف قدره، ويرنو أبناؤه إلى التصالح والتسامح، بل ويرفضون أن يكون ماضيهم هو سرطان القضاء والقدر، أو جسراً يمر عليه (الأوباش) للسيطرة عليه.. وربما لهذا السبب فإن (أمثال اليمانيين) يضيقون كثيراً بالتسامح الصادق الذي يسري في الجنوب، بل ويعتبرونه خطراً داهماً ينبغي مواجهته حتى بضربات طائشة لاتعكس إلا هزيمتهم وخذلانهم.

ويعلم الكل كيف كانت تتطابق مثل الثورتين المصرية والجنوبية في الكثير من الإجراءات سواء في مجال التعليم أم في مجال التشريع، والخطأ الذي ارتكب في الجنوب إبان حكم الاشتراكي حصر في مجال تأميم القطاع الخاص وإغلاق الأسواق التجارية الحرة وتربية الإنسان بروح الأممية الإنسانية التي تعتبر أن كل إنسان مهما كانت قوميته هو أخوه الذي يحب بصورة متساوية كل شجرة من أشجار كرتنا الأرضية المشتركة.. ولو كانت هذه الأفكار بنيت على روح الإسلام وتعاليمه مع أخذ هذه الروح الأممية لكان الحال غير الحال.. وكان الفرق بين النظام في صنعاء وفي عدن أن الأول تحكمه القبائل المتقاتلة مع بعضها ومع الدولة والثاني تحكمه قوانين في ظل دولة مركزية بغض النظر عن اختلافنا مع تلك القوانين، والشيء الآخر يكمن في أن قادة ثورة الجنوب أرادوا تحقيق هذه المثل على أساس المساواة بين أفراد المجتمع، أما قادة ثورة سبتمبر- خاصة بعد ذهاب السلال- فعلى أساس الغنيمة والسلب والنهب في ظل حكم بدون قانون.. وهكذا ففي الجنوب كانت تكمن الفكرة الإنسانية بشكل عميق، تلك الفكرة المرتبطة بالمصالح الإنسانية المشتركة.. فبنيت الوحدات السكنية بدلاً عن القصور.. واتضح أن المثال السامي في الجنوب لا يمكن تحقيقة بفكر واحد وعلى حساب شرائح اجتماعية كثيرة أو بحكم شمولي وحزب واحد، فتقاتل قادته وليس مواطنيه على تلك الأيديولوجيا وليس على سرقة أملاك الأمة.

فالاشتراكيون لم يتمكنوا من خلق مجتمع شامل من المساواة والحرية أو من دفن القطاع الخاص بأفكار محدودة النطاق فأدى بهم ذلك إلى (مجزرة) 13 يناير ثم وضع الجنوب بالكامل تحت ساطور مقصلة النظام الآخر المدعوم عربياً ودولياً.

واليوم ندرك جميعاً خطر كلا النظامين- القبلي المتخلف والأيديولوجي المتخلف- على الوحدة وعلى الإنسان البسيط وحقوقه، ومن المؤسف أن أغلبية أتباع مبدأ قانون القوة لم يتعظوا من الماضي ولم يسمعوا تحذيرات الشرفاء اليوم، ويواصلون اقتحام الجنوب شأنهم شأن الاشتراكيين الذين هربوا عام 90 من الرمضاء إلى النار، وكما عاش الاشتراكيون على شعار الثورة العالمية (ياعمال العالم اتحدوا!) فالسلطة الحالية تغطي الوحدة بالجهوية والتعصب ليسهل عليها فرض سلطة مطلقة في الجنوب وحرية تجارية وإعلامية وسياسية في الشمال، متحكمة بوعي الجنوبيين الهاربين من الماضي.. وكان من المهم اليوم تجاوز ذلك الماضي لحكم القرون الوسطى ولاشتراكية القرن العشرين، ونقتنع تماماً أن إنقاذ اليمن لايتم إلا بتوحيد الجنوب والشمال عن طريق حق كل كيان بأرضه وثروته وشراكته في الحكم، وعلى مبادئ إنسانية رفيعة يجيزها ديننا الإسلامي الحنيف.. فسلب الجنوب بهذه القسوة لا جدوى منه، بل والأنكى من ذلك أن من يمارس قتل الناس فيه هم من يسعون إلى الاطمئنان النفسي، وهم مجموعة قليلة يشعرون بالخوف لذا يأمرون بالقتل وسلب الأرض وتقاسم الثروة.

أنا واثق من أن الذنب في تسلط (سياسة القتل ضد المواطنين العزل الذين يعتصمون أو يحتجون مطالبين بأرضهم وثروتهم ووظائفهم) يقع كله تقريباً على عاتق الفاسدين والمتنفذين الخائفين على ما نهبوه، والذين جعلوا أنفسهم وحدويين ودبروا أمورهم في ظل الإرهاب الذي يمارس على الجنوبيين، وبعد أن ذاقوا طعم السمسرة بحقوق الآخرين غير المحدودة، يستحيل اليوم أن يسمحوا لأصحاب الحق أن يقولوا كلمة حق في وجه زعماء الحرب، لذلك هم يطرحون الفكرة القائلة أنه كلما ازدادت معرفة الجنوبيين بخطورة ما يجري على مستقبلهم، كلما ازدادت شدة المطالبة بحقوقهم، ولذلك يتطلب ذلك ليس تخفيف حدة الإرهاب وإطلاق الرصاص على المواطنين المسالمين والعزل وإنما تصعيده والحفاظ على مبدأ القوة وشعار (الوحدة المعمدة بالدم) وأن يبرر كل ذلك بالمثل السامية للوحدة، مع أنه كان يجب أن تكون قوة النظام في المرحلة الحالية في إعادة حقوق الناس في الجنوب، الحقوق التي تكون الوحدة مهلكة بدونها والنظام يكون ضعيفاً بدونها.

إن الوحدة ليست سوى العدالة، وهي بالتالي انبعاث الأمان والاستقرار، وهي ليست مبدأ جديداً على البشرية، وليست نتيجة للديمقراطية العامة أو لصندوق الاقتراع أو لتعزيز الجهاز البوليسي التعسفي، فأعطونا حقوقنا وعينوا المسئولين من الأعلى، أفضل من أن تسلبونا حقوقنا وتعطونا مسئولاً عن طريق الانتخاب.

وهكذا، فإن محاولات الدعاية الإعلامية الرسمية لإعادة سلبيات الماضي أو لتصوير الوضع الجنوبي الصعب بأنه يمكن السيطرة عليه، وعدم قدرة المسئولين على رسم السبل الواقعية للخروج منه تؤدي في الواقع إلى نزع الثقة، كما أن عدم وجود آفاق لإعادة أملاك أبناء الجنوب وتردي الظروف المعيشية المتواصل للعام الثالث عشر على التوالي يقودان إلى غموض المستقبل، ويخلقان تربة للظهور العفوي والسياسي للاستياء الجنوبي المتراكم.

إن مليون مقالة يمكن أن تنشر لتشويه الماضي الجنوبي أو للاستعانة به لضرب الجنوبي بالجنوبي لم تعد تؤثر حتى بالجاهل أو الأمي الذي قد تنطلي عليه مثل هذه الأمور.. وسيظل موقفنا موقف انتظار وترقب مع قيامنا بالاحتجاجات السلمية إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً!

والآن، أخي القارئ وقد قرأتم مقالي هذا، ومقال الأخ ياسر اليماني الذي سيتبرأ منه يوماً ما، فهل كنتم ترون (القراء) أن نرد على البذاءات التي أطلقها ضد الأستاذ والمثقف الوطني علي صالح محمد ونوافقه على فتح صفحات الماضي والتهديد بها، وأن نفقد كل شعور بالمسئولية الأخلاقية والوطنية، أم كان من الأفضل أن نتحدث عن سلبيات ترافق كل الأنظمة الشمولية، ولكن نسيان القضية الأصلية وهي القضية الجنوبية هذا الذي يستحيل تحقيقه، وأريد أن يعلم اليماني أننا لا نقبل أن نكون في الوحدة إلا شرفاء ورؤساً لا جبناء وتابعين.. وهيهات أن نكون كالقردة ترقص متى ضرب لها بالدف.. فلتبحثوا لكم عن غيرنا وفي وطن آخر غير وطننا فإننا لسنا من هولاء، ولا فرق عندنا بين ماضٍ بفضله تسلمتم المقود الحزيان وبين من يسلب حقوقنا بطرق احتيالية وباسم الوحدة.. سوى أن الأول له ما له وعليه ما عليه، والثاني معتدٍ على الوطن والأرض والثروة بأسرها.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى