قصة قصيرة ..وحيدُ الثاني

> «الأيام» مختار مقطري:

> نومي ثقيل، لكني أتقلب كثيراً في الفراش، وأنتبه إذا سترني أحد، فتحت عيني الثقيلتين، كانت عمتي مسك واقفة أمامي وهي تبتسم، ثم قالت وكأنها تعني ما تقول:

- الله يشفيك ياحاج أمين.

لم أستوعب مغزى قولها بسرعة، ودعاءها الله من الصبح (يالله اليوم)، أن يشفي مجرماً عاقبه بالجنون، ربما كرهته أكثر مني، فقلت باستغراب وأنا أفرك عيني:

- الله لا شفاه ولا سامحه.

رفّت في عينها اليمنى غمزة، وهي تقول: ربما كان لزينب رأي آخر.

تنبهت حينها إلى أن جسدي مغطى من قدميّ إلى تحت صدري (بالطراحة) الصفراء التي أغطي بها الفراش الأسفنجي الذي أنام عليه في (الداره).. شعرت بالحرج.. فقلت وأنا أجلس في الفراش:

- كيف وحيد؟

فقالت بعتاب نسائي رقيق:

- وأم وحيد.. ألا تسأل عنها؟

أجبتها، وقد دفنت يديّ تحت (الطراحة) الصفراء لأسحب فوطتي إلى تحت ركبتي:

- هي الخير والبركة.

لكنها هتفت بجدية ضابط عسكري:

- الساعة ست.. و(القراع) جاهز في المطبخ، سيأتي عتيق بعد قليل.

عادن إلى غرفة النوم حيث تنام مع زينب وابننا وحيد ابن السبعة أيام.. وفي الحمام تذكرت وجع الختان وأنا أقف عارياً تحت (الرشاشة)..بعد بضع ساعات سيجري وحيد ذلك الوجع المنصهر، وسيشعر بكل ذلك الألم الذي شعرت به وأنا ابن سبعة أيام، لكنه سينسى كما نسيت.. فهل ننساه حقاً؟! أم يتوارى داخل نفوسنا ليعلن عن وجوده بردود أفعال غريبة وخطيرة تصدر عنا أحياناً، كما فعل الحاج أمين، إبراهيم هو الوحيد الذي قضى ما تبقى من عمره يتذكر وجع الختان، أمي - الله يرحمها- وضعتني فوق ركبتيها، وباعدت بين فخذيّ، وتمتمت: (بسم الله) وتمتم الحاج أمين: (بسم الله)، ثم أمسك عضوي بيده اليسرى، وبشفرة حادة بيده اليمنى خلصني من قطعة لحم صغيرة ورقيقة، لكنها محرمة، إلا أنه لم يكتف بتخليص وحيد منها فقط فبتر عضوه.

قلت للحاج أمين بزهو وفرحة عامرة: كما ختنتني تختن ابني البكر.

لم ألحظ على وجهه أنه ليس على ما يرام، ولم أشعر بقلق حين قال بحدة مستنكرة رافضة:

- وعلامَ الإنجاب؟

أجبته بفخر رجولة أثبتت فحولتها:

- ابني البكر.

فقال بسخرية:

- بل شقي جديد، وطفل مشرد، ورجل بائس معدم ينجب شقياً آخر.

وكأن الحاج أمين كان بحاجة لفعلة شنيعة تفقده عقله.. نزف دم وحيد.. نزف كثيراً.. حتى مات بعد ساعتين في المستشفى، ومنذ ذلك الحين وهو يهيم في الشوارع عارياً إلا من خرقة رثة تستر عورته، وفي المساء ينام على مقربة من باب (الجلي).تتحول (الشيخ عثمان) في المساء إلى (لوكندة) كبيرة.. كانت الساعة السابعة.. حين كانت سيارة صهري عتيق (الماسدا) تسير ببطء وحذر شديد في الشارع الرئيس.. كنت إلى جواره وعمتى مسك في الكرسي الخلفي وابني وحيد في صدرها هادئاً مطمئناً في نوم عميق لا يدري أي لحظات من الألم المكثف المفاجئ سيذبحه في المستشفى بعد سويعات، وحين مرت سيارة صهري عتيق (الماسدا) أمام صيدلية (الأمل) المغلقة، كان علي سعيد لايزال غارقاً في نومه اللذيذ على (كرتون) حليب (دانو) في مساحتها الخارجية الصغيرة، ومفرشه الأرضي مغطى بقماش خيمة أزرق، علي سعيد يبيع الأدوية الشعبية لعلاج الضعف الجنسي والبواسير والنواسير وآلام الظهر والمفاصل والعمود الفقري والشقيقة وضعف النظر وتساقط الشعر والثعلبة والبهاق و (السلاق) والزهري وسرعة القذف وحرقة البول والتبول اللاإرادي و السعال والسعال الديكي وتسوس الأسنان وقرحة المعدة والسكري والتهاب الرئة والإمساك والإسهال والزهايمر والإيدز وانفلوترا الطيور وجنون البقر وأمراض الأنف والأذن والحنجرة.. ويبيع الخشخاش ومسحوق مهبلي لمنع الحمل، كانت دهشتي عظيمة وأنا أرى علي سعيد نائماً بجوار صيدلية (الأمل) وتساءلت كيف يعيش رجل بيننا ليس على ملة إبراهيم، بينما كانت عمتي مسك تحدث ابني وحيد وهي تضحك.

-لو ربي يشفي الحاج أمين اليوم بس.. أفضل لك من المستشفى.

ضحكت أنا.. لكن صهري عتيق لم يضحك لأنه لم يفهم مغزى حديثها.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى