> «الأيام» علي الجبولي:

غطاء نباتي فقير
«الأيام» طافت بتلك المنطقة لرصد هموم أبنائها ولاسيما مأساة الظمأ التي أنهكتهم طويلا، والتعرف على مشروع ماء كان أملهم الذي طالما حلموا به لإنقاذهم من الظمأ لكن تعثره بدد آمالهم.
تحاشياً لرحلة ساعتين ذهاباً وإياباً في طريق صخري يولد إرهاقاً يجبر على التلكؤ واختلاق الأعذار، اعتذرت حتى نفدت الأعذار أمام إلحاح أهالي المنطقة لزيارة منطقتهم والاطلاع على همومهم ومعاناتهم من تعثر مشروع ماء أنهكوا من متابعة الجهات المختصة بإنجازه. ، لكن لا بد مما لا بد منه، سيما وأن الناس يمنحون «الأيام» ثقتهم ويرون فيها ملاذاً جديراً بحمل معاناتهم إيصالها شكواهم للجهات المعنية بحلها ربما تعيرهم اهتماماً فتحلها أو تسمع الشكوى على رأي الرائع عطروش.
جيت بابكي ما لقيت في العين دمعة
قلت باشكي ربما شكوتي توصل لسمعه
حتى وإن كانت الاستجابة من منطلق إنساني وأخلاقي بعد أن غاب الشعور بواجب المسئولية.
ما أن تجتاز السيارة سوق «الربوع» بعدة كيلومترات حتى تبدأ بالانحراف من طريق التربة ـ المقاطرة لتتوغل شرقاً وادياً ضيقاً يشبه الشعاب ينتهي إلى جبال وتلال وعرة تتصل بجبال الحكيمي، إنها بلدة أو (عزلة) الأشبوط - كما يحلو لبعضهم تسميتها - وما يتداخل معها ويجاورها من الزعيمة والنهيرة .
أعشاش عصافير
رغم قسوة التضاريس وشظف عيش الإنسان لا تخلو المنطقة من مشاهد طبيعية ذات جمال أخاذ تتبدى مشاهده في لوحات متصلة من المدرجات الزراعية رائعة الإبداع، نقشتها أنامل فنان مبدع على صدر كل تلك الجبال والتلال والمرتفعات من أخمص قدميها حتى هامتها، رغم قلة ما تنتجه من محصول، لكنه يشكل مع الأشجار والنباتات الجبلية القليلة غطاء نباتياً شفافاً يستر جسد المنطقة.
مشهد جمالي آخر لا تخطئه عين الناظر يبدو في مناظر المنازل المعلقة تتدلى من قمم وسفوح وأحضان تلك السلسلة الجبلية كأنها أعشاش عصافير (الصفراء) على شجرة سدر- رغم عفوية تناثرها - شكلت تلقائياً لوحة لا تخلو من تناسق. إلى هذا وذاك يضاف جمال عمارة المنزل وتصميم بنائه واختيار خاماته من أحجار البيئة المحلية، وتناسق اتساعه وارتفاعه بما يلائم تضاريس وطبيعة المكان.حينما كنت أتأمل هذه المناظر الطبيعية وأحاول التقاط مشاهد منها قفز إلى ذاكرتي عنوان استطلاع قرأته منذ سنين بمجلة «العربي» أعده الكاتب محمد المنسي قنديل عن البناء في البيئة الجبلية في اليمن بعنوان (اليمن ، النجوم تنام على الجبال).

مشاهد من تضاريس المنطقة
تقرر أن نتناول الغداء في منزل أحد الوجهاء، لم نجد مفراً من القبول دون أن نسأل أين المنزل . في طريق وعر يتلوى عرض الجبل ولا يتسع سوى لشخص واحد صعدنا فطال الصعود.
أبسط ما تفتقر إليه المنطقة غياب الخدمات الصحية فالمنطقة التي يتكون سكانها من عدة آلاف تخلو ولو من وحدة صحية هنالك وحدة صحية في الانبوه على مسافة بعيدة جداً لخدمة مناطق كبيرة وتكاد تفتقر لتقديم أبسط الخدمات ، مما يضطر أبناء المنطقة إلى نقل مرضاهم عشرات الكيلومترات شمالاً نحو التربة أو جنوباً نحو طور الباحة . أما خدمات التعليم فوضعها لا يقل بؤساً. ثمة مدرسة الإشعاع (أساسية ـ ثانوية) في الأشبوط غير أنها هي الأخرى لم تسلم من مخالب مماطلة ومخالفات مواصفات المقاولة شكا منها الأهالي، وزادها خطر السيل المحيق بها إن عاجلاً أو آجلاً . مثل مناطق كثيرة في الريف تنتشر في المنطقة آبار بدائية قديمة حفرت بالأيدي على مدى القرون الماضية بحثاً عن ماء الشرب , كانت مياهها تنزح بالدلاء فتفي بحاجة الأهالي ، اليوم نضبت تلكم الآبار ، وإن امتلأت في موسم الأمطار، إما من خلال تدفق الماء إلى داخلها مباشرة أو من خلال تغذية مخزونها السطحي، لتشكل مصدراً مؤقتاً لماء الشرب، لكنها سرعان ما تنضب فور انتهاء الموسم. هناك مصدر بدائي آخر لماء الشرب يكاد يحتل المرتبة الأولى في المنطقة، إنه السقايات أو الصهاريج الجبلية التي كانت قديماً تنحت بقرب المنزل، لا سيما في المرتفعات العالية ، صارت اليوم تبنى على شكل خزانات من البلك أو الحجر والأسمنت وقد تبلط وتمرمر، غير أن هذا كله لا يسد متطلبات الإنسان والحيوان من ماء الشرب ، فيضطر أبناء المنطقة إلى شراء الماء بسعر يصعب استمرار تحمله طويلاً .

بئر عتيقة
ضائقة العطش أجبرت كثيراً من أسر المنطقة على النزوح والرحيل إلى مدن ومناطق أخرى تجد فيها الماء ، كما روى لنا أبناء المنطقة. ومن بقي منهم أجبر على البحث عن ماء . طرقوا أبواباً عديدة وحينما نجحوا باعتماد مياه الريف مشروع ماء لمنطقتهم هللوا فرحاً دون أن يضعوا في حسبانهم ما يمكن أن يخبئه لهم الانفلات والتسيب. اعتمد مشروع الماء الذي كان يؤمل أن يستفيد منه نحو 6000 نسمة في كل قرى المنطقة . مصدر الماء متوفر هناك بئر قديمة رغم بعدها عن المنطقة لكن كميات مائها مشجعة. سلم المشروع لمقاول فرض من خارج المنطقة لا يعرف ولا يحفل بظمأ أهلها. حدد السقف الزمني لإنجاز المشروع بستة أشهر فقط ولكن المقاول عمل أياماً ثم ذهب ثم عمل وتوقف ثم عاد فأكمل بعض الأعمال ثم ذهب إلى غير رجعة تاركاً بقية الأعمال . وفق ناموس التسيب وغياب المحاسبة مضى 24 شهراً والمشروع يتخبط في حباله دون أن يلوح في أفق الأشبوط بوادر ظهوره، في حين يصارع أبناء المنطقة العطش ويكابدون تكاليف باهظة لشراء الماء ثم تكابد المرأة حمله من موقع شرائه في الوادي إلى المنزل في المرتفعات الشاهقة . على بعد بضعة كيلومترات وقفت السيارة قال مرافق هذه بئر مشروع الماء. تلفت يمنة ويسرة أبحث عنها، أشار إلى حجرة قديمة متهالكة مساحتها 3×3م2 تقرفص على شفا واد ، سقفها أربع زنكات لا غير ، لا تظلل من حر ولا تقي من مطر، مع ذلك وضعت بداخلها مضخة مشروع الماء . هذه الحجرة ومضخة الماء خلقتا قبل أن يخلق المشروع، قال أحد المرافقين «هذه الغرفة بنتها المرتفعات الجنوبية قبل ربع قرن بيتاً لمضخة مشروع مياه سابق انتهى بعد أن تلفت مضخته، وسلمت الغرفة للمقاول ليبني مكانها بيتاً جديداً لمضخة مشروع الماء الجديد ولكنه لم يبن. أما المضخة فحصلنا عليها قبل عدة سنوات من أحد مشاريع المساعدة وسلمناها للمقاول ليضمها للمشروع لكن السنين تمضى ولم نشرب».