> «الأيام» الخضر عبدالله محمد:

عمال يصطلون بحرارة الشمس المحرقة
عمال يصطلون بحرارة الشمس المحرقة
يتكومون في الأرصفة والجولات والشوارع والأسواق بحثاً عن عمل.. يحملون أمتعتهم وأحلامهم وأحزانهم في أكياس من الأرق اليومي..عالقون بين البطالة والغلاء.. يكابدون مرارة الحرمان.. تراهم يفترشون الأرض.. شعث عغبر، تلهب أجسادهم سياط حرارة الشمس الحارقة منذ الصباح الباكر، وعينهم ترصد القادم إليهم لعله صاحب عمل فيتسابقون إلى سيارته لعلهم يجدون عملاً يوفر لهم ولأسرهم لقمة عيش ناشفة بعد أن تركوا قراهم وعزلهم بحثاً عن الحياة في مدن يحتكر معظم مسئوليتها قطاع المقاولات والوظائف والتجارة فيما 80% من البطالة والخريجين والمهمشين يعيشون عالة وعلى الأرصفة بلا دخل ثابت ولا مأوى ولا عمل ولا أمل في مستقبل أفضل.

ذلك ما تقوله أعينهم وأجسادهم المنهكة وتشير إليه معاناتهم المزمنة من البطالة والفقر والحاجة إلى عمل يضمن لهم البقاء والحياة الشريفة بعيداً عن مسالك الانحراف المفتوحة على مصراعيها، في ظل حكومة لاتفكر في أكثر من مكافآت وحوافز موظفيها وتأثيث مكاتبهم ومنازلهم، أما غيرهم من السواد الأعظم فلهم الأرصفة والجولات وأزقة الشوارع، حتى إذا بلغت المعاناة أشدها تحول هؤلاء إلى قنابل موقوتة قد تنفجر في أي لحظة.

«الأيام» التقت بعض الخريجين والعاطلين عن العمل وخرجت بهذا الاستطلاع.. وهاكم أبرز ما خرجت به:

للعامل اليمني أحلام بغربة تأويه، وهاجس اللقمة يدفعه إلى أقرب رصيف بانتظار فرصة عمل، ووضعية حشود العاطلين عن العمل لا تليق بهم كبشر، فهم يتكدسون في العراء بالمئات، ويتجمهرون في تقاطعات الطرقات وأرصفة الشوارع بانتظار فرصة عمل، فإن جاء من يحتاج لعامل هرول إليه العشرات ولايحسم الأمر إلا بمعركة ومن ينتصر فيها فهو الأقوى الذي يختاره صاحب العمل، وكثيراً ما ينتهي هذا التوافق بنهاية العمل، فعدم اعتماد شروط تنظم العلاقة بين العامل وصاحب العمل يؤدي إلى خلاف يصل بهم إلى أقسام الشرطة، وهناك لاتسل عما يحدث، أما ظروفهم المعيشية والصحية والأسرية فتحكي روايات البؤساء ومعذبي الأرض، وكلها تلخص المعاناة المباشرة لهؤلاء.

حميد خريج يعمل في أحد المطاعم (قهوجي)
حميد خريج يعمل في أحد المطاعم (قهوجي)
نعمل يوماً ونتوقف أسبوعاً

كان لنا لقاء في بداية الاستطلاع بالأخ عبده نعمان قاسم من منطقة (...) الذي قال:«نحن هنا على كف الرحمن ننتظر من يأتي ليأخذنا أو بعضنا للعمل، سواء كان مواطناً أم صاحب عمل أم مقاولاً، وعندما يطلب منا واحداً فقط يندفع نحو السيارة أكثر من خمسين عاملاً! الكل يريد أن يذهب، فتحصل أحياناً فتن ومشاكل بين العمال تصل لحد الاعتداءات والضرب، وأخيراً يذهب صاحب العمل إلى حراج آخر لأخذ عامل أو أثنين، وفي نهاية اليوم يقوم بمماطلة العامل بأجره أو عدم إعطائه حقه كاملاً، وهكذا أحياناً يعمل العامل يوماً أو أسبوعاً مثلاً ويتوقف عن العمل أسبوعاً أخر أو أسبوعين، وهو يطالب المقاول أو صاحب البيت بأجره.. وأخيراً عندماً يلجأ للجهات المختصة يصطدم بعد وجود من ينصفه، وتتذرع تلك الجهات بعدم وجود عقد أو اتفاقية بينه وبين صاحب العمل وخصوصاً إذا كان صاحب العمل تأجراً أو مقاولاً.. حكم القوي على الضعيف!».

عمال الحراج يفترشون الرصيف
عمال الحراج يفترشون الرصيف
كارثة وقهر مختنق

يخرج حمود قاسم عبده وثلاثة من أولاده كل يوم إلى الجولات بحثاً عن عمل ولايجد إلا في النادر فرصة عمل.. يروي حمود حياته البالغة القسوة:«خرجنا من السعودية شم الأنوف، قلنا لن نبيع كرامتنا مقابل عمل سنجده في بلادنا، حملنا أمتعتنا وخرجنا باتجاه الوطن، وبعد 17 عاماً مرت من عمرنا كأنها دهر بأكمله لا نعرف كيف جئنا ومن الذي دفعنا من نار الغربة إلى هذا الجحيم، بعنا كل شيء حتى أدوات المطبخ والدواليب وأشكال الترف التي كنا عليه، بحثنا عن أعمال لكنها كانت بلا معنى، لم تكف لسد قيمة اللقمة التي تقتاتها أسرة مكونة من 11 نفساً، اشترينا بسطة ثياب فلسنا، عملنا بالأجر اليومي والحال كما هو، ولاجديد غير الجرع والغلاء ينهب ما بقي لنا من حياة كريمة، ساءت حياتنا لدرجة لاتطاق، افترشنا أرضاً لا ماء ولا كهرباء ولا مجاري فيها، كل شغلنا هذه السنوات انتخابات ووعود وكذب.. وأخيراً كما ترى ها أنا مع أولادي نبحث عن عمل ننقذ به أنفسنا من الجوع والفقر والبهدلة.. أين نذهب من هذا الوضع؟». قالها الوالد حمود ومضى يتحسس ما بقي في جيبه من فتات:«كارثة يا ابني..!» قالها وفي حلقه ما يشبه بركاناً من القهر المختنق.

خريج لغة إنجليزية يعمل خبازاً
خريج لغة إنجليزية يعمل خبازاً
لم أستطع جمع قيمة الوظيفة

عبدالرحمن محمد الشرعبي خريج كلية الاقتصاد:«بعد أن أكملت الدراسة الثانوية قررت أن أتوقف عن الدراسة الجامعية من أجل مساعدة والدي وتخفيف أعباء وطلبات الحياة المعيشية، إلا أنه رفض وطلب مني مواصلة الدراسة والحصول على الشهادة التي تساعدني في الحصول على أي وظيفة حكومية، وترددت بالشهادة على أكثر من جهة ومؤسسة حكومية لطلب التوظيف، ولكنني اكتشفت أن التوظيف لا ولن يأتي كما كنت أتصور بحسب المؤهل والتخصص والمعايير القانونية، وإنما تحصل على الوظيفة بمبلغ مالي كبير يصل إحياناً إلى (200.000) ريال!! وعندما واجهت هذه المشكلة المادية اتجهت نحو (العمل الحر) منذ خمس سنوات لعلي أوفر مبلغاً كهذا للحصول على حلمي وحلم الأسرة (الوظيفة الحكومية) إلا أنني وقعت في مشكلة أخرى وهي عشوائية العمل الحر الذي أزاوله مثلي مثل بقية هؤلاء العمال الذين تراهم بعينك في (الحراج) عملهم كلهم عشوائي، والدخل الذي أتحصل عليه لايؤمن لي مصاريف حياتي المعيشية اليومية! وأعرف زملاء مرضوا ولم يحصلوا على قيمة العلاج، ومنهم من توفي ومنهم من أصيب بحالات نفسية مستعصية لأن الدنيا أغلقت أمامه الأبواب من كل الاتجاهات، ولم نصل لهذا الحد من المشاكل والمعاناة فحسب بل هناك أمور كبيرة مأساوية حيث يواجه العامل مشكلة في عدم حصوله على أجره اليومي كاملاً حسب الاتفاق، وعندما يذهب بعضنا لمكاتب العمل أو أي جهة أمنية أو مختصة نجد أن هذه الجهات تقف إلى جانب الأقوياء، وتبرر بأن القانون لايحمي المغفلين!».

خريج يتجول في الأحياء يجر عربة
خريج يتجول في الأحياء يجر عربة
العاطلون بالآلاف وبعضهم أصبحوا مجرمين ولصوصاً

حميد عوض القباطي (طالب ثانوي): «كان يفترض أن أكون في إحدى قاعات الدراسة لمواصلة تعليمي، ولكن مع الأسف ظروفي المعيشية أجبرتني على الخروج من الدراسة والتسكع في الشوارع أبحث عن عمل أستطيع من خلاله توفير لقمة العيش الضرورية، وكم ياطلاب وشباب تركوا دراستهم وخرجوا إلى الشوارع يبحثون عن العمل، بعضهم حصلوا على العمل والبعض الآخر يئسوا وتسكعوا وانحرفوا وأصبحوا مجرمين ولصوصاً، وبعضهم (جننوا) أو بمعنى أصح أصيبوا بحالات نفسية مرضية».