عدن في عام 1709م

> «الأيام» نجمي عبدالمجيد:

>
«إنها أفضل مكان في شبه الجزيرة العربية بأسرها لأن المدينة التي تحمل هذا الاسم هي الأشهر والأهم في تلك البلاد كافة»

تلك هي كلمات الرحالة الفرنسي دي لاروك الذي جاء عبر البحار إلى بلاد العربية السعيدة في رحلة كانت بدايتها منذ عام 1708م وعام 1710م، ثم كانت الرحلة الثانية وصولاً إلى ميناء المخا وإلى بلاط إمام اليمن في السنوات من عام 1711 م إلى عام 1713م.

هي عدن منارة الحضارة والتاريخ ومكانة الإنسان، عاشقة البحر، والمسافرة مع حلم الأمواج، الساكنة في قلب كل من أحبها، القادمة إلينا مع رحلة الغيوم، الشادية نغماً مع تساقط قطرات المطر، مدينة الشمس وسيدة النور، المتجددة الميلاد مع كل شروق.

ماذا كتب الرحالة الفرنسي دي لاروك عن عدن؟ وكيف وصف مرفأها وحصونها وحكامها؟ عدن في ذلك الزمان، المكان والإنسان وحكاية من صفحات التاريخ، وعودة إلى مفردات ومعان تنطق بلسان الدهر وكأنها الوجدان الذي لا يغفو عن الشوق، والذاكرة التي لا يغيب عنها الحنين، والحقائق المتواصلة مع رحلة الأيام.

الوصول إلى عدن

يقول الرحلة الفرنسي دي لاروك:«ما كدنا نرسو في الطريق إلى عدن، رافعين الراية الفرنسية، حتى أرسل الحاكم لنا قاربين محملين بالكثير من المؤن، مرحباً بنا على لسان أحد الضباط ،ولأننا كنا على مسافة أكثر من فرسخ من المدينة، لم نبلغ الشاطئ ذلك اليوم، ولم نجد من المناسب حجز أنفسنا تحت قلعة في بلد لا يزال أهله مجهولين بالنسبة لنا ولكن في وقت مبكر من صباح اليوم التالي أرسلنا وفداً لتحية الحاكم. وفي غضون ذلك حبيناه بطلقات من سبعة مدافع في كل سفينة، رد عليها من مدافع القلعة التي تسيطر على الطريق الأقرب إلى المدينة، وأرسل فوراً لتحيتنا مرة ثانية مع الدعوة بالقدوم إلى الشاطئ، واحتشدت قوارب البلد حولنا لتقدم لنا كل أنواع المؤن وكنا قد أدركنا بالفعل أن العرب شعب متحضر وأكثر تعوداً على رؤية الأجانب مما تصورنا.

وذهب السيد دي شامبلوريه ومضيت معه بصحبة بعض الضباط من سفننا الثلاث إلى الشاطئ بعد تناول الغداء، ووجدنا على المدخل بعض الجنود الذين اصطحبونا إلى بوابة يطلقون عليها بوابة البحر العظيمة بسبب كبر حجمها ومواجهتها للمرفأ وكان أمامها مجموعة من الحراس.

ولاحظت في أثناء مروري أن هذه البوابة هائلة السمك وبها مسامير حديدية كبيرة أو ربما أوتاد يسندها عمود من الحديد متناسب الحجم مع باقي مكونات البوابة، دخلنا من هذه البوابة إلى دهليز مقنطر على نحو بديع قرابة خمس عشرة خطوة ووجدنا نوعاً من الباحة المقنطرة على نحو مماثل تنتهي بزاوية واستقبلنا هناك بحفاوة عظيمة ضابط رفيع الرتبة يدعونه أمير البحر وندعوه أمير البر وربما هو رئيس المرفأ. وأجلسنا على أرائك من نوع خاص جداً، وسألنا من أين أتينا ومناسبة رحلتنا وكانت محادثتنا قصيرة بسبب كون هذا الضابط قد أبلغ الحاكم بأمر رسولنا، فأرسل أوامره بمثولنا أمامه.

خرجنا من بوابة حديدية في أدنى المكان أفضت إلى مكان آخر جوانبه كتل خشبية، وسرنا بين صفين من الجنود، يتقدمنا ويتبعنا آخرون، وأمير البحر على شمالنا، حتى وصلنا قصر الحاكم. ارتقينا درجاً بديعاً إلى الجناح الرئيس، حيث وجدنا الحاكم جالساً على أريكة في الطرف العلوي مغطاة بسجاد فاخر ووسائد موشاة بالذهب. وكانت حاشيته مصطفة عن اليمين وعن الشمال وأعضاؤها يجلسون بالمثل على السجاد، وكانت بقية القاعة مغطاة بالفراش الجميل واتجهنا إلى الأريكة من دون خلع نعالنا، وهو معروف نادراً ما يمنح لأي شخص. وبعد السلام على الحاكم بادر بمصافحتنا، وأبلغنا عن طريق مترجمه وهو أحد المنشقين البرتغاليين أن علينا الجلوس، وبدأ يسألنا أسئلة عامة تتعلق بالبلد الذي قدمنا منه ورحلتنا، فأجبنا عنها بما يرضيه، وأكد لنا حمايته لنا في نطاق حكمه، وبعد تكريمه لنا ببعض القهوة السلطانية، كان لطيفاً معنا إلى حد إخباره لنا أنه أمر بتجهيز مساكن لنا، وحيث إنه من غير المعتاد الحديث عن العمل في أول لقاء فقد استأذنا في الانصراف بعد أن قدمنا له الشكر وودعدنا بزيارته صبيحة الغد مرة أخرى في الصباح التالي.

صحبنا أمير البر في الموكب ذاته إلى بيته الخاص، الذي أمر به الحاكم لاستضافتنا،حيث أرسلنا قاربنا للحصول على المؤن التي كنا بحاجة لها والضروريات التي لزمتنا. وهذا البيت وإن كان واسعاً وجميلاً في مظهره، ليس به من الأثاث سوى البسط، التي ستحل محل المقاعد والمناضد بالنسبة لنا، وكنا مندهشين لذلك ولكن هذه هي عادات هذه البلاد.

أحضروا لنا في المساء بعض الشموع ولكن بدون الشمعدانات التي كان علينا التزود بها بطريقتنا، وتناولنا العشاء وقضينا الليل من دون هموم.

جاء مضيفنا أمير البر لرؤيتنا في الصباح الباكر والاطمئنان على راحتنا، وأجبته بعد تفكير طويل بدت عليه من جراء ذلك دهشة كبيرة سائلاً عما إذا كان هناك ما يزعجنا وما الذي يريحنا حيث إنه، كما قال، وضع الحراس حول البيت طوال الليل موصياً بعدم إصدار أي ضوضاء. فأبلغته أننا لم نكن معتادين النوم على فراش وثير ، مما جعله يبتسم قليلاً، حيث إن أولئك الناس متزنون للغاية، ونادراً ما يضحكون بصوت عال.

مضينا للتنزه في المرفأ، منتظرين الساعة المناسبة لزيارة الحاكم الذي ذهب إلى بيت حريمه، حيث قابلنا مرة ثانية، ولاحظنا عدة نوافذ في الجدار في سلم الدرج مع شبابيك نظرت السيدات من خلالها لرؤيتنا خلال مرورنا، وأدخلنا إلى مجلس كالذي كنا فيه بالأمس.

وكان الحاكم يجلس في الطرف العلوي ولكن حاشيته لم تكن عديدة بالقدر ذاته. وأهديناه مقطعاً من القماش القرمزي وبعض البنادق، قبلها باستحسان كبير، وحثنا على الاتجار مع حكومته، مؤكداً لنا محاباته الخاصة لنا، مشيداً بما ينتجونه من بن ممتاز ووفير فضلاً عن البضائع والتسهيلات العظيمة التي ستقدم لنا، مضينا من هناك لزيارة حاكم القلعة، الذي كانت له دار في المدينة، وبعدها قدمنا له هدية من البنادق وبعض القماش حيّانا ببعض القهوة السلطانية والحلوى. وكان رجالنا في غضون ذلك قد أهديت لهم الفواكه وكان هذا الحاكم لطيفاً جداً ومجاملاً، وكان لديه الكثير من هيبة الرجل رفيع المكانة وكان له اعتباره في جميع أرجاء البلاد.

بعد ذلك بقليل، وعقب عودتنا إلى منزلنا جاء البانيان، وهم السماسرة في شبه الجزيرة العربية، لزيارتنا وعرض خدماتهم علينا، ورغبوا في أن نرسل بطلب البضاعة التي على متن سفننا، أو على الأقل نماذج منها، ولكن حيث إنه لم يكن لدينا سوى قضبان الحديد وقليل من المرجان وبعض القرمز، وكان كل مخزوننا الرئيس من القروش لشراء البن اكتفينا بجعلهم يرون المواد التي على ظهر غنيمتنا الهولندية.

بعد تناول الغداء عدنا لزيارة كبير البانيان وطلبنا منه من دون كبير مجاملة أن يقدم لنا شرباً بدلاً من القهوة السلطانية التي لم نكن معتادين عليها كثيراً.

واتنقلنا من هناك إلى السوق حيث تباع جميع أصناف البضائع ومعروضة في المتاجر، وتوجد عدة وشوارع مجهزة كتلك التي في سوق سان جرمان.

والبانيان هم التجار ولا تشاهد النساء هناك أبداً».

وصف عدن

تقدم لنا أوراق رحلة دي لاروك إلى عدن في عام 1709م عدة أوصاف لحال مدينة عدن في تلك الفترة من التاريخ، ومما دون من وصف لمعالم عدن؛ حماماتها التي كانت كلها مبطنة بالرخام أو اليشب وبها قبب بديعة فيها فتحات في القمة تسمح للضوء بالدخول، وقد زينت من داخلها بأروقة تساندها أعمدة فخمة، أما البنايات بكاملها فقد قسمت بصورة مريحة جداً إلى عدة حجزات، وخلوات وغرف أخرى مقنطرة وكلها متصلة بالقاعة الرئيسة كذلك وجود الممرات في تلك الأماكن، وهو ما يماثل المدن التركية العظمى في ذلك الزمان التي جاء ذكرها في قصص الشرق.

وبعد الخروج من تلك الأماكن، ساروا إلى السوق الشعبية في عدن حيث شاهدوا متاجر اللحم والسمك والعديد من الحاجات المطلوبة عند الناس والتي بدت لهم جيدة جداً بأنواعها المتعددة.

وفي صباح اليوم التالي بعد زيارة الحمامات والسوق قام الرحالة الفرنسي دي لاروك بجولة في مناطق متعددة من عدن، وقد ذكر بأن المدينة تقع في سفح الجبال العالية التي تحيط بها من كل جانب، وقد تكون هذه إشارة إلى هضبة عدن.

وذكر أيضاً بأن خمس أو ست قلاع موجودة في أعلى الجبال مع ستائر وتحصينات أخرى عديدة في المضايق والممرات الضيقة بين الجبال، أما الماء فقد كان ينقل من هناك عبر قنوات جميلة التصميم إلى قناة كبيرة أو خزان يقع على بعد قرابة ربع فرسخ عن مدينة عدن، وقد ذكرت بعض المصادر التاريخية مقل أبو الفدا بأن هناك بوابة كانت توجد عند الجانب البري من عدن يطلق عليها اسم بوابة قنوات المياه، وكانوا عبرها ينقلون الماء إلى عدن من عدة أماكن، وقد أشار الرحالة في إلى أن بعض من زار المدينة في عهود سابقة قد ذكروا بأن نهراً يمر عبرها، فهو لم يجد ما يدل على ذلك، وقد زودت تلك القناة سكان عدن بماء جيد جداً.

كان ذلك المكان محاطا بالأسور غير إنه أهمل حتى أصبح في وضع سيء جداً وبالذات على جانب البحر، حيث توجد بعض الهضاب على أبعاد معينة مع خمس أو ست بطاريات مدفعية من النحاس تحمل كرات من وزن 6 أرطال، وقد رجح وجود هذا السلاح بأنها جزء من مدافع تركها القائد التركي سليمان الثاني (15أبريل 1642م - 23 يونيو 1691م) خلفه وبعد أن أجبر الأتراك على الخروج منها وتركها للأمراء العرب.

مما جاء في وصف دي لاروك لعدن، أن هناك طريقاً واحدة فقط تساعد على الوصول إلى عدن من البر وتمر عبر جسر ضيق يمتد داخلاً في البحر مثل شبه الجزيرة.

ويقدم لنا الرحالة مزيداً من الوصف قائلاً:«تسيطر على رأس هذا الجسر قلعة مع حراس متمركزين على مسافات معينة، وتوجد على مدى طلقة مدفع قلعة أخرى بيضاوية الشكل فيها أربعون قطعة مدفعية كبيرة، مركبة على عدة بطاريات مع حامية، بحيث يكون من المستحيل محاولة النزول من ذلك الجانب. وعلى طريق الاتصال بين المدينة وهذا المكان توجد أيضاً قلعة أخرى، بها اثنا عشر مدفعاً وحامية. وباتجاه البحر، الذي يمكن الوصول إلى هذه المدينة عن طريقه، يوجد خليج بعرض ثمانية أو تسعة فراسخ في المقدمة وهو مقسم إلى طريقين إحداهما واسعة جداً وبعيدة عن المدينة والثانية أقل وأقرب، والتي يطلق عليها المرفأ وهذه بعرض فرسخ واحد، وتأخذ من عرض القلعة التي تسيطر على 50 مدفعاً حتى النقطة التي تقع فيها القلاع التي وصفتها لتوي ويمكنك الرسو في جميع أرجائها، حيث يتراوح عمق المياه بين 18 إلى 20 و22 قامة. ولن أطيل الحديث عن داخل المدينة، فهي واسعة إلى حد كبير، ويستطيع المرء أن يرى فيها عدة بيوت جميلة ترتفع إلى طابقين وتعلوها سقوف مسطحة، ويمكن الحكم عليها في يسر مما هو باق .ومن خلال الموقع المميز والقول المفيد إن عدن كانت ذات يوم مدينة مشهورة وذات أهمية عظيمة، مكان قوي، ومتراس شبه الجزيرة العربية السعيدة الرئيس. والأرض المحيطة بها، وإن كانت ضيقة إلا إنها جميلة بكثير من الخضرة التي تنمو على سفوح الجبال».

أول من أدخل شرب القهوة إلى عدن

في دراسة قدمها دي لاروك عن تاريخ شجرة البن، يقدم لنا عدة معلومات عن الرجل الذي أدخل شرب القهوة إلى عدن لأول مرة، نقلاً عن كتاب «عمدة الصفوة في حل القهوة» ومؤلفة عبدالقادر بن محمد الأنصاري الجزيري الحنبلي، وقد قسم هذا الكتاب إلى 7 فصول حيث تناول الفصل الأول علم اشتقاق لفظة القهوة ومعناها وطبيعتها وخواصها وأين كانت بداية استخدمها لأول مرة والسبب في ذلك.

أما الفصول الأخرى فتتحدث عن خلاف فقهي حول موضوع القهوة، وكان المؤلف فقد سطر هذا الكتاب في مصر عام 996هـ الموافق عام 1587م، ويشير دي لاروك إلى أن ما كتبه عبدالقادر فيما يتصل بالاستخدام الأول للقهوة والتقدم الذي أحرزته بعد ذلك يعود إلى شهاب الدين بن عبدالغفار المالكي، الذي كان قد كتب من قبله بزمن طويل في هذا الموضوع وهو الأكثر من حيث المصداقية والتدقيق.

وهو الذي عاش قريباً من العصر الذي شاع فيه استخدام هذا المشروب حيث قال:«جمال الدين أبو عبدالله محمد بن سعبد الملقب بالذبحاني من ذبحان، المدينة الصغيرة من مدن شبه الجزيرة العربية حيث كان مولده، والذي كان مفتياً لعدن المدينة المشهورة والميناء في البلاد نفسها في قرابة أواسط القرن التاسع الهجري والخامس عشر الميلادي، والذي أتيحت له فرصة القيام برحلة إلى بلاد فارس، وفي أثناء أقامته هناك لاحظ بعض أبناء بلده يشربون القهوة، فلم يعر ذلك اهتماماً كبيراً في البداية، ولكنه عندما عاد إلى عدن قام بتجارب عليها آملاً أن تجلب له الانتعاش. ولم يسترد المفتي عافيته فحسب، بل سرعان ما أحس بفوائد أخرى للقهوة، خصوصاً أنها طردت كل ثقل في الرأس، وصفت الذهن وأبقته متنبهاً من دون أي آثار سيئة بعد ذلك.

وقد استغلها بصفة خاصة بسبب هذه الميزة الأخيرة وغالباً ما شرب القهوة مع الدراويش، وهم طائفة من المتصوفة المسلمين، ليقيموا الليل، أو ليواصلوا الذكر بمزيد من التنبه وحضور الذهن.

والمثل الذي ضربه المغني في شرب القهوة وكونه حجة في هذه الشأن، وكذلك رجال الشريعة وأولئك الذين أحبوا القراءة وجميع الحرفيين الذين كانوا مضطرين للعمل ليلاً، والمسافرين الذين كانوا يرتحلون ليلاً تجنباً لحرارة النهار، أدى إلى إن السكان بأسرهم أقبلوا سريعاً على شرب القهوة، وليس في الليل للبقاء متيقظين فحسب، بل في ساعات النهار أيضاً بسبب منافعها الأخرى.

وهكذا شاع استعمال القهوة في عدن، وكان هذا هو المكان الأول الذي تلقاها فيه بشكل عام، جمال الدين، وهو رجل واسع الأفق يحظى بتقدير المدينة، وعلامة آخر ذائع الصيت اسمه محمد الحضرمي، المولود في حضرموت، عاصمة البلد المسمى بهذا الاسم في شبه الجزيرة العربية».

المرجع: رحلة إلى العربية السعيدة عبر المحيط الشرقي ومضايق البحر الأحمر -تأليف:الرحالة/الفرنسي دي لاروك -ترجمة: صالح محمد علي -صادر: عن المجمع الثقافي أبوظبي -الطبعة الأولى: 1999م.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى