خمسون عاما لـ «العربي» سفيرة الكويت المعتمدة في الوطن العربي

> «الأيام» د.هشام محسن السقاف:

> لا أتذكر -الآن- أول مقالة لي تحظى بشرف النشر في صحيفة «الأيام» الغراء فهي واحدة من اثنتين: إما مقالة بعنوان «مجلة العربي» أو ثانية بعنوان «جمال عبدالناصر»، وقد نُشِرتا في صحفة (الأدب الجديد) التي كان يُشرف عليها في ذلك الوقت- في النصف الأول من التسعينيات الماضية، وأنا طالب في روسيا الاتحادية- الفقيد الغالي صالح الصائلي، ويومها وجهت عنايته إلى المقالة برسالة إليه وليس إلى رئيس التحرير وفي مخيلتي أن الصائلي- رحمه الله- أحد شيوخ الكتابة في «الأيام» منذ عهد عميدها الأستاذ محمد علي باشرحيل رحمه الله.

وأيٌ كان أمر المقالتين سبقاً في النشر فإن سبب كتابتي عن مجلة «العربي» مقالا ًفي «الأيام» يومئذ هو حصولي على درجة الماجستير في الصحافة الدولية عن أطروحتي الموسومة «مجلة العربي 1992-58 دراسةتحليلية)بعد أن أرجأت النظر في موضوع الصحافة اليمنية بعد تحقيق الوحدة اليمنية في عام 1990م، لكمية الصحف والمجلات التي خرحت مع الوحدة من براثن الحظر السائد في الشطرين قبل الوحدة، حتى لكأننا نفوز بالظفر بصحيفة أو مجلة مع إشراقة شمس كل يوم جديد. وكان عليَّ أن اقتنص موضوعاً آخر، أثيراً على النفس ولم تُشبعه أقلام الباحثين دراسة، فكانت «العربي» الكويتية التي مهدت بالقول عن اختيارها موضوعاً لنيل درجة الماجستير؛ إنني وجدت نفسي طفلاً في منزل تحتضن أركانه كتابين : كتاب الله العزيز، ومجلة «العربي»، وأذكر أنني واظبت على شرائها وقراءتها منذ كنت طالباً في المرحلة الإعدادية، وهذه الرسالة حسب تقديراتي في العام 1992م هي أول رسالة ماجستير عن مجلة «العربي».

تحتفل مجلة «العربي» هذه الأيام -شهر ديسمبر- بمرور نصف قرن على إصدار المجلة العروبية التي تخطت حواجز وأستار الحدود العربية- العربية، باعتمادها سياسة عدم التدخل في الخلافات بين الأنظمة العربية وتركيزها على الشأن الثقافي، مما جعلها سفيرة الكويت المعتمدة في كل بيت عربي.

وأحسبني أجزم إن الكويت الدولة التي التي لم تستقل عن بريطانيا في الوقت الذي صدرت فيه المجلة، استطاعت أن تتبنى مشروعاً ثقافيا بحجم مجلة «العربي» متجاوزة بها -بعدة مزايا- مثيلات لها في الوطن العربي ليس بالانتشار الواسع فحسب، وإنما بالجهد المبذول في هذه المطبوعة العربية الراقية في شكلها ومضمونها، بالكيفية التي جعلتها مهوى قلوب الملايين في أقطار العروبة الذين يتسابقون إلى اقتناءها شهرياً. نجحت الكويت بمقدار النجاح الذي حققته شقيقتها الخليجية قطر في بث قناة «الجزيرة» المثيرة للجدل من أراضيها لتصبح قطر بصغر حجمها دولة عظمى - كما يحب أن يبالغ البعض- تُعرف عند القاصي والداني في العالم ككل، ودون أن نغفل هنا الفارق الزمني بين صدور «العربي» من الكويت وإطلالة «الجزيرة» على المشاهدين في العالم في منتصف التسعينات، ومع مراعاة المقاصد الكويتية النبيلة من وراء هذا الإصدار لمجلة عربية شاملة، تكاد لا تكتشف مكان إصدارها إلا بإمعان النظر في سطر خجول يشير إلى أنها تصدر عن وزارة الإعلام في دولة الكويت وهو دأب كويتي رأيناه في مشاريع التنمية التي قدمتها الكويت لشقيقاتها العربيات، ومنهن اليمن، حيث قدمت هذه المشاريع- ومنها منارات علمية مهمة مثل جامعة صنعاء، وكلية الشرطة - دون مِنّة أو شروط أو تدخل في شؤون اليمن.

يقول د. سليمان إبراهيم العسكري، رئيس تحرير «العربي» في حديث شهر ديسمبر 2007م: «وأما عن الاختيار فإن النظر إليه من بعد هذه العقود الخمسة في إطاره الزمني يجلعنا نتيقن أن صدق النوايا يقود حتماً إلى صحة الاختيار، فقد واكب انطلاق فكرة «العربي» وتحققها لحظة تاريخية ذات دلالة فارقة، فـ «العربي» التي صدر عددها الأول في شهر ديسمبر 1958م استبقت استقلال الكويت بعدة أشهر فكأنما كانت «العربي» تقول بحقيقة الوحدة الثقافية العربية، بمؤزاة الوحدة السياسية التي كانت حلماً قصير العمر سرعان ما أعقبه الانفصال المؤلم. ومن ثم كان اختيار راية الوحدة الثقافية العربية هو الحلم العربي القابل للتحقيق، والمؤهل للحياة طويلاً، ولعل مرور هذه السنوات الخمسين يكون شاهداً على ذلك، وهو شاهد رحيب الإفادات ، فالمجلة التي رأت النور على أرض الكويت صارت ضيفاً يحل بترحاب في كل بيت عربي من الخليج إلى المحيط» ص 18.

ولتأكيد هذه الخصوصية لمجلة تحمل مشروعاً ثقافياً عربياً مبكراً، فقد رأت دائرة المطبوعات - وزارة الإعلام- في الكويت، التي كان يرأسها في ذلك الوقت الأمير صباح الأحمد الجابر الصباح أن تذهب بهذا المشروع إلى مداه العربي بحسن اختيار خيرة العقول العربية التي من الممكن أن تنهض بأعبائه الكبيرة، فكانت رحلة الأستاذ الأديب المعروف أحمد السقاف عام 1957م من موقعه في الدائرة إلى أقطار العروبة: العراق، سوريا، لبنان ومصر لاختيار من يقع الاختيار عليه للعمل في المجلة المزمع صدورها، وتحقق للسقاف مأربه بالتعاقد مع خيرة الأقلام العلمية والأدبية من مصر وسواها وفي مقدمة الجميع الأستاذ الكبير د. أحمد زكي. يقول السقاف عن رحلة البحث عن هيئة تحرير كفؤة للمجلة المقترحة: «توجهتُ صباح يوم الإثنين السادس عشر من نوفمبر عام 1956م إلى دائرة المطبوعات والنشر ملبياً رغبة رئيس الدائرة الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح في انتقالي إليها نائباً للمدير، ولقد وجدت أن الدائرة تفكر في إصدار مجلة ثقافية، وقد استكتبت بعض الكتاب والأدباء وتجمعت في الإضبارة عشرات المقالات، وكانت دوائر الحكومة في ذلك الحين تتسابق في إصدار المجلات فدائرة المعارف لها مجلة... إلخ وتقدمت بتقرير شامل في أوائل صيف 1957م إلى رئيس الدائرة فحظي بالموافقة السريعة ثم بدأت أفكر في ثلاثة أمور هامة أولها: تقوية المطبعة ببعض الخبراء في الطباعة وثانيها: رفع مستوى مصنع الزنكوغراف إلى درجة تؤهله لإنتاج الصور الملونة، وثالثها: إصدار المجلة على نحو يختلف شكلاً ومضموناً عن المجلات التي صدرت في الكويت فلا تكفي المقالات التي وردت من بعض البلدان العربية لإصدار مجلة يجب أن تؤدي رسالة العلم والأدب وفنون الثقافة العامة بشكل مثير جذاب إلى كل جزء من أجزاء الوطن العربي الكبير وإنما يجب أن نحسن اختيار من يعهد إليهم النهوض بأعباء مثل هذه المجلة المتميزة».

ويقول السقاف سارداً قصة «العربي» : «في صباح الأحد 1957/12/29 غادرنا بيروت إلى القاهرة وفي صباح الإثنين 1957/12/30 اتصلت هاتفياً بالدكتور أحمد زكي وطلبت مقابلته... وزرته في منزله بالمعادي، وبقيت في حوار معه حول مشروع المجلة أكثر من ساعة ونصف الساعة وكان متهيباً من ترك القاهرة والاستقرار في الكويت، والحقيقة إن الحياة في الكويت في ذلك الحين كانت صعبة على المترفين من أبناء المدن الكبيرة... في 1958/1/2 قصدت الدكتور أحمد زكي وشرحت له المشروع أكثر وأكثر فوافق على أن يكون له الحق في الاعتذار خلال أسبوع فأعطيته الحق في الاعتذار في أي وقت يشاء».

وقد بعث السقاف لرئيس الدائرة والمدير برسالة هذا نصها:«صاحب السعادة رئيس دائرة المطبوعات والنشر، السيد مدير المطبوعات- الكويت، تم الاتفاق مع الدكتور أحمد زكي، البقية سيتم اختيارها قريباً، مشروع المخطوطات أنجزناه، التفاصيل في كتاب مؤرخ 4 منه، السقاف». «وقد اتفقت- والقول للسقاف- مع الدكتور أحمد زكي على أن يكون راتبه أربعة آلاف روبية أو ثلاثمائة جنيه إسترليني عدا الضرائب والامتيازات الأخرى، .... ولقد شاركني الدكتور أحمد زكي منذ الاثنين 1958/1/6 في الزيارات والمقابلات ، فزرنا معا دار الهلال، واتقنا مع المسئولين فيها على شراء أربعة آلاف صورة بألف جنيه، وفي اليوم التالي اجتمعنا بأحمد الوردجي الذي رشحته المطبعة الأميرية لي رساماً للمجلة، فوافق عليه الدكتور أحمد زكي وزرنا بعد ذلك مسبك الشرق لصناعة الحروف ومصنع زنكوغراف طوروس، للوقوف على أسباب تأخر وصول (كليشيهات) المصحف الشريف، وقد قصدت مساء يوم 1958/1/12 الأستاذ إحسان عبدالقدوس وشرحت له موضوع المجلة فأعجب بالمشروع».

ويختتم السقاف بقوله:«وحين وصل من تعاقدت معهم وعلى رأسهم الدكتور أحمد زكي وبدأوا يستعدون لتجارب خاصة للمجلة، تخلَّف عن الحضور قدري قلعجي فقصدت القاهرة للاستجمام، واتفقت مع الأستاذ عبدالوراث كبير ليكون سكرتيراً لتحرير المجلة فحضر إلى الكويت وعمل مع المجموعة ليل نهار، وقد رأيت بالاتفاق مع مدير الدائرة السيد بدر خالد البدر أن أُفاتح الدكتور محمود السمرة في الانتقال من التدريس في ثانوية الشويخ إلى مجلة العربي نائبا لرئيس التحرير فوافق وانتقل إلى المجلة».

مجلة «العربي» قصة العربي ، أحمد السقاف، العدد 302 يناير 1984م

وتقول الشاعرة د. سعاد الصباح عن («العربي»: رحلة عطاء) بمناسبة مرور خمسين عاماً على صدور «العربي»: «منذ صدورها قبل خمسين عاماً وحتى اليوم، شكلت «العربي» رمزاً كويتياً ثقافياً مميزاً إلى حد جعلها جزءاً من اسم الكويت ومعلماً من معالمها. نجحت «العربي» في طرح صيغة جديدة لمعنى المجلة الثقافية، إذ زاوجت بين العلم والأدب ، بين التحقيق المصور والكلمة المبتكرة ، وبين الشعر والنثر والنقد والإبداع في صورة رصينة للابتكار الإعلامي. لقد احترمت «العربي» قارئها فبادلها ذلك بالثقة وتعامل معها كمرجعية ثقافية، وهذا أقصى ما تطمح إلى تحقيقه المجلة أو المطبوعة، خاصة أنها تخاطب خليطاً من الثقافات والموروثات المتنوعة للشعوب العربية المتمايزة الثقافة، ولكن بلغة واحدة» (العربي، ديسمبر 2007م، ص 28).

وهذا الكوكتيل الثقافي المتنوع والشهي الذي تقدمه "العربي» لمائدة الإشباع العربية كل شهر، يجعلها في منطقة وسطاً، غير نخبوية متخصصة، كما هي غير محكمة، ولا هي بالمجلة العادية التي لا ترقي للمستويات الجدية، في حين ترقى موضوعاتها بدرجة عالية من العمق والموضوعية، وبسلاسة لغوية تجعلها في طائلة المتلقي العادي.

لقد ذهل كثيرون من الأساتذة الأجانب من مقدرة هذه المجلة على نقل القراء العرب معها إلى شتَّى أقطارهم العربية كل شهر من خلال (الاستطلاعات) المصورة الملونة في هاجس عروبي لتعزيز عُرى الفكرة العربية لدى جمهرة القراء في كل قطر، مما يجعل بين يدي الخمسين عاماً المنصرمة من عُمر «العربي» موسوعة جغرافية عربية نقلتها عدسة أوسكار متري ومن جاء بعده من مصوري «العربي»وفريقها الذي زار غير مكان في القطر العربي الواحد بما في ذلك اليمن بشطريه منذ ستينيات القرن الماضي.

لا أريد تكرار توصيف المراحل التي مرت بها مجلة «العربي» في مسيرتها الماضية فقد استفاض د. سليمان إبراهيم العسكري في (حديث الشهر) للعدد الذهبي لشهر ديسمبر 2007م، في تقييم فترات رئاسة التحرير بدءًا بـ (الدكاترة) أحمد زكي وانتهاءً به، ولكن الحقيقة التي لا ينكرها أحد أن زكي قد طبع المجلة بسماتها المتميزة بالتنوع الثقافي، فالرجل المتعدد الملكات علمية وأدبية وسياسة قد تفانى في توزيع تلك الملكات والقدرات على صحفات «العربي» فمن افتتاحياته الشهرية الراقية التي تجمع السياسة في لبوس أدبية إلى موضوعات علمية وفلكية وفكرية بسلاسة لغوية، جعلت منه الأكثر شهرة في الوطن العربي بين أوساط المثقفين العرب حتى سقوط القلم من يده وهو يدبج افتتاحيته الأخيرة عام 1976م. يقول د. محمود السمرة وهو كاتب وأكاديمي من الأردن: «في صيف عام 1958م اتصل بي الأستاذ أحمد السقاف، نائب مدير دائرة الإرشاد والأنباء وحدثني عن مشروع ثقافي تتبناه الكويت ويكون لمصلحة المواطن العربي في كل مكان، وهذا المشروع هو إصدار مجلة تكون هدية الكويت إلى العالم العربي توحد بين العرب، ولا تزج نفسها في الخلافات الموجودة بينهم. وأخبرني أنه تم الاتفاق مع الأستاذ الكبير د. أحمد زكي ليكون رئيساً للتحرير. وهو عالم معروف كان رئيساً لمصلحة الكيمياء، ورئيساً لجامعة القاهرة، وطلب مني الأستاذ السقاف أن أعمل مع د. أحمد زكي لإصدار هذه المجلة التي لم يكن لها اسم ولا اتجاه والشيء الوحيد الذي يريده المسؤولون ألا تتدخل في الخلافات العربية، وأن توحد ولا تفرّق وقد راقت لي الفكرة وبدأنا العمل، نائباً لرئيس التحرير» (العربي، ديسمبر 2007م، ص 204).

ومن العام 1976م حتى 1982م تدخل «العربي» مع الأستاذ الكبير د. أحمد بهاء الدين فترة أخرى لا تغيب سحنتها المعتادة عن قرائها بقدر ما يضيف إليها بهاء الدين بنظراته الفكرية بعداً آخر في المستقبليات وقضايا الإسلام السياسي التي فرضت نفسها في تلك الأعوام، وربما نظر بهاء الدين إلى جيله الستيني فظهرت أشعار عبدالصبور على صفحات المجلة منافسة للشكل الكلاسيكي المهيمن، وكانت مساحة الحوار تعطي الانطباع عن الحرية الفكرية التي حملها على كاهله (مهندس الصحافة العربية) أحمد بهاء الدين. ومن المنطقي أن يدخل إلى فضاء التحرير لمجلة كبرى كـ «العربي» أبناء الكويت في العام 1982م بعد نحو عشرين عاماً من الاستقلال وأكثر من ذلك من صدور «العربي» بعد أن قطعت الكويت شوطاً طويلاً في التعليم والبناء المدني لدولة تمثل إشعاعاً حضارياً في رأس الخليج العربي - والتعبير لأحمد بها الدين. فقد تحمل د. محمد الرميحي رئاسة تحرير المجلة ابتداء 1999-1982 جامعاً بين خلفيته الأكاديمية وخبراته الصحافية مع الاحتفاظ بملامح المجلة كما اعتادها القارئ العربي دون أن يحول ذلك إدخال مزايا التطوير عليها. وفي فترة الرميحي مرت الكويت بمحنة العدوان العراقي الغاشم على أراضيها عام 1990م الذي غيب أشياء كويتية كثيرة ومنها مجلة «العربي» قبل أن تعود الكويت بعد تحريرها بكل دفقها العروبي السابق، بما في ذلك مجلة «العربي» رغم الجروح التي خلفها العدوان. ولعني أتذكر سؤال أحد أساتذة لجنة المناقشة العلمية لرسالتي لنيل درجة الماجستير عن مجلة «العربي» فيما إذا تغير الملمح العربي في المجلة عند معاودة صدورها بعد العدوان؟! والإجابة تفصح عنها «العربي» نفسها التي مازالت تحافظ على نهجها وخطها كمجلة لكل العرب.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى