كرش مصير مجهول وهوية ضائعة ومظالم ليس لها نهاية

> «الأيام» أنيس منصور:

>
كانت كرش مركزا إداريا من مراكز محافظة لحج سابقا، وتحولت جميع المراكز إلى مديريات باستثناء كرش التي تم إلحاقها كعزلة هامشية لمديرية القبيطة بقرار سياسي، كانت كرش حدا فاصلا بين جمهوريتين، تذكرنا أنات التشطير ومآسي المزفرين والوفود المتنقلة بجوازت السفر وتراخيص المرور بحدود وإشارات وبراميل مجوفة، عرفت كرش بأنها بوابة الجنوب ومفتاح الوحدة، وعانى أبناؤها مرارة الحياة وسط اللهب والبارود في خطوط التماس، وكانت تصلها المساعدات المجانية والخدمات والاهتمام البالغ والعناية المركزية آنذاك تقديرا لموقعها المهم والإستراتيجي، وبعد تحقيق الوحدة اليمنية تحولت كرش وساكنوها إلى كائنات ملحقة ثانوية.. مآس وقهر وقلق وفوضى وفقر مدقع وحياة قاسية في منازل شعبية، تعداد سكانها (25 ألف نسمة) يشعرون بظلم تاريخي، فقد مروا بحلقات من ألالم والعذابات المعززة بالتهميش والتمييز العنصري.. «الأيام» تنقل لكم تفاصيل ما آلت إليه قرى ومراكز مناطق كرش.. فإلى التفاصيل.

فقر متزايد وبطالة متفشية

تفاجئك مناطق الصبيحة (ذر وعلصان وزيق والضاحي وحدابة) بعالم من البائسين والمساكين تفتح أفواههم مرة أو مرتين لوجبة بسيطة تسد الرمق، وتستقبلك أجسام ضعيفة هزيلة بهدوء وانكسار، لايعرفون اللحوم إلا في عيد الأضحى، قذفت بهم سياسة الإفقار إلى سراديب الفاقة خلف الوديان والصحارى بحثا عن مصادر العيش في جمع الحطب وإحراقه وبيعه على هيئة أكياس من الفحم. وقف خدام علي عبدالله الصبيحي يشرح عملية جمع الحطب وتحضير الفحم في مجتمع كرش، وجسمه يتصبب عرقا، وسواد التراب يكسو ثيابه قائلا:« بعد فجر كل يوم يتسابق عشرات الرجال والنساء والشباب إلى الشعاب والغابات والجبال، يحملون أدوات القطع وقليلا من الزاد للاحتطاب، حيث يتم تجميع أعواد الحطب وتقطيعها إلى إجزاء تترك فترة حتى تجف، ثم تنقل إلى أخدود كبير لإحراقها، وسد منافذ الأخدود بالتراب والأحجار ومخلفات الأغنام لثلاثة أيام، ثم نستخرجها على شكل قطع مقسمة من الفحم ونمضي بها إلى السوق». وأضاف خدام الصبيحي بحسرة:« الحياة تعب وغلاء، ونحن مخيرون بين هكذا عيش أو الموت جوعا».

وفي حديث آخر تطرق غالب الجحيلي إلى قصص وحكايات الفقراء ومن هم على شاكلتهم، والمخاطرة بحياتهم في أسفار ورحلات البر والترحل لرعي الأغنام متنقلين بحثا عن مواطن العشب والمياه، ليس لهم موقع محدد، وسألنا غالب: ماذا تعرفون عن أوضاع العالم وسياسة البلاد وأنظمة العولمة؟ فقال:« نحن أميون، لانعرف شيئا، ولا نفهم بالسياسة، نحن نتعامل مع الأشجار والأحجار والأغنام، لانملك حتى بطائق الهوية!».

ذلك مجرد نموذج بسيط لمن شاهدناهم على هيئة جلود سوداء وبشرة يابسة أنهكها الحر والبرد والجوع والمرض، لايعرفون إلى أي بلد ينتمون.

وفي لقاء آخر كتب رئيس جمعية (عاطلون بلا عمل) بكرش وليد علي حميدة بحثا مطولا عما يعانيه الشباب والخريجون الجامعيون في كرش، أشار فيه إلى أن أكثر من 875 خريجا وجامعيا من معاهد صحية ومهنية وجامعات لم يحصلوا على فرص التوظيف، إضافة إلى خريجي الثانوية الذين لم يستطيعوا مواصلة التعليم الجامعي نظرا للتكاليف الباهظة والفقر والعوز، وشباب فاتهم قطار الزواج، وعلا الشيب رؤوسهم، فمنذ 94م حتى الآن لم يحصل على التوظيف الرسمي سوى نفر قليل، وهناك طابور ليس له نهاية لايزال في انتظار التوظيف.

كما تساءل فواد جندوح حازم الذي مضى عليه أحد عشر عاما ولم يوظف:« أين هي حصص الوظائف لكرش، ولماذا تمارس ضدهم ممارسات خائبة حاقدة لإضعافهم، ثم تذهب وظائفهم لآخرين في ظل سطوة المتنفذين، لم يبق لنا شيء، فقدنا معنى المساواة والعدل في توزيع وإعطاء الحقوق».

مشاريع مرقعة وظلام مركب

أضحت الخدمات في كرش مثل ورقة (اليانصيب) فيها الربح والخسران، وأعجب من ذلك المشاريع الحيوية التي افتتحت رسميا باعتمادات جديدة، وهي في الأصل قائمة على مشاريع أصلية سابقة، فلماذا العبث والاستخفاف؟ ونضرب أمثلة فقط لمشروعي مياه وكهرباء كرش الذين كانا منذ عهد النظام السابق، واستفاد الأهالي آنذاك من المشروعين، واليوم كما قال أحمد المصدح:« نسمع جعجعة ولانرى طحينا، مشاريع ترقيعية ليس لها أثر على الواقع، لم يلمس الناس خيرها حتى الآن».

وقد أبدى عضو المجلس المحلي داؤود صالح مرات عديدة اعتراضا على سياسة الترقيع وتخدير الناس بسراب وأوهام تنتهي مع مغيب شمس كل يوم، واستغرب داؤود الملازم توصيل أعمدة الكهرباء العمومية إلى منعطف الشريجة وحدود وادي حدابة، قضية الخدمات في كرش ليس لها تعليل، فمشروع المياه تم إعادة تأهيله وعمل المقاول فترة ثم توقف، ومشروع الكهرباء تجري حاليا أعمال أعادة الربط له مع وجود كثير من الشكاوى والطلبات، ولن نستبق الأحداث، سوف ننتظر، خطوة خطوة، وسنرى إلى أين المصير، وفي ذات مقيل حاشد بحضور مشائخ ومثقفين وتربويين أجمعوا وبصوت موحد أن مشروع الكهرباء الذي يتم العمل فيه مجرد تخدير وتهدئة لغضب الشارع والاحتقانات، دائما ما تعلن المشاريع الأهلية فشلها، وأنه لا فائدة إلا بالربط الكهربائي العمومي، مطالبين بمساواتهم بعزلتي الهجر واليوسفين. وعن موضوع مشروع مستشفى كرش الريفي فهو مجرد ديكور، مضى عامان ولم يتم تجهيزه وتشغيله لأسباب لايعلمها إلا الله والراسخون في المنجزات الوحدوية، ولاننسى أن مراكز الضاحي وزيق وعلصان وذر والقيفي محرومة بكل معاني وألفاظ الحرمان رغم كثافة السكان، لكن لا مشاريع لا مياه لا كهرباء لا خدمات صحية، وبالتالي لا حكومة ولا أثر يدل على وجود الحكومة، إنها قرى ومناطق بائسة رهينة أوضاع مقلوبة وحياة خالية من العدل والإنصاف والكرامة والحرية والمواطنة المتساوية، بسلوك ملتو ونوايا سوداء، فما تزال بيوت البعس والمطارفة والمخاديم والصبيحة غارقة في الظلام، ينام أحدهم وهو يتمنى أن يكون مصروف اليوم الثاني تحت وسادته، ويسمع الصبيحي في علصان والمعقم والخشب عن المليارات والقروض وهي توزع عبر نشرات الأخبار الإذاعية ثم ينتفض: أصحيح هذا؟! أين نصيبنا، لماذا نحن منسيون مقصيون؟!. إنها منازل وتجمعات سكانية هادئة ومسالمة تشكوا الظلام المركب بفوانيس وقماقم، قصتهم جمعت في كتاب عنوانه (قصة نضال طويل ضد الظلام).

مدارس تحت الأنقاض

أحد عشر مدرسة من مدارس كرش غير صالحة للتعليم، طلاب وطالبات يدرسون على خوف وذعر من تساقط سقوف الفصول القديمة ذات بناء شعبي تتفتت أجزاء أسمنتية يمينا وشمالا، مدارس زيق والزبيري نتيد عبارة عن أكواخ من القش والأشجار، عيون التلاميذ موزعة بين أشواك الشجر ولوحة الطباشير، حشرات زاحفة خطيرة تداهم التلاميذ من وقت لآخر، أما مدارس السفيلي وعلصان والوحدة فإن طلابها يمتنعون عن التعلم في مواسم الأمطار، وفي الشتاء تنتشر الأمراض والالتهابات نتيجة التعلم في العراء وافتراش الأرض. ومن خلال الرصد وتقصي أوضاع مدارس كرش، والإنصات لرسائل مدراء المدارس وأولياء الأمور خرجنا بحصيلة وتقرير مفصل يحكي الوضع المقرف والصور المزعجة عن جيل يتلقى تعليمه على ظلال الشجر وعومة (ظل) الجدار في الكهوف والمغارات ومدارس تحت الأنقاض.

حديث رسمي ولوحة استثمارية

نزلت «الأيام» إلى مكتب السلطة المحلية بالقبيطة، وطرحت الوضع المأساوي لسكان ومساكن كرش على طاولة مدير المديرية لحسون صالح مصلح الذي بدوره تحدث عما رصده المجلس المحلي في خطته للعام القادم التي شملت بناء فصول دراسية في زيق وترميم مدرسة عمار السفيلي وبناء مدرسة الوحدة كرش وعلصان، وتناول لحسون أعمال إعادة تأهيل مشروعي مياه وكهرباء كرش حاليا واعتماد حالات الرعاية لبعض المهمشين، مضيفا أن هناك اهتماما وتوجيهات بربط جميع مناطق كرش من الكهرباء العمومية، وبناء معهد مهني في مدرسة قميح سابقا، وما يمكن أن نتطرق له التزاما بالمهنية هو مشروع صادق البركاني الاستثماري لإحداث بصيص حياة وحراك في كرش من خلال إنشاء أسواق الخضروات واللحوم والقات ومجمع للخدمات البترولية وسوبر ماركت ومطاعم سياحية وفندق خدمات متنوعة، هو مشروع استثماري جدير بالاهتمام وتذليل الصعوبات لينعش المنطقة بعد موت محقق.

أسئلة أخيرة

تلك هي كرش الحاضر، مصير مجهول وهوية مفقودة، وهواحبس تقلق الناس، تراكمت عليهم المصائب وتكالبت الهموم واستحكم فيهم الفقر، ينشدون اللقمة وأمان الخدمات، تتقاذفهم مظالم ليس لها نهاية، تعرف مصيبة القوم من خلال تقاسيم الوجوه وبعثرة الثياب.. أسئلة كثيرة تقول:

- إلى متى ستظل كرش رهينة الترقيع، ولماذا توزعت أعمدة الكهرباء حواليها لا عليها، ومن المسئول عن نقل مبنى كلية المجتمع كرش إلى الراهدة والهجر، ومن هو المستفيد بالضبط أبناء لحج أم تعز؟

- ما الهدف من تقسيم النسيج الاجتماعي لأهالي كرش من خلال ضم مناطق علصان وذر والقيفي لمديرية تبن، وإلحاق قرى الدكم والحميدة بالمسيمير، واستيعاب زيق والضاحي ضمن مديرية ماوية، لتبقى كرش اسم بلا معنى بشري وسكاني؟

- ماهي المصلحة العامة من نقل المجمع الحكومي من كرش الواقعة على خط إسفلت دولي يربط بين عدد من المحافظات إلى جبال شاهقة متصلبة تسمى ثوجان، لم تجد فيها الطيور موضعا لأعشاشها، فكيف بمجمع حكومي؟

ماهي قصة حجر الأساس الذي وضع ولا يزال صامدا بجانب نقطة التفتيش السابقة، لم تمسه أيادي العبث وعوامل التعرية، فما هو مشروع الحجر وأين ذهب ياترى؟

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى