حكايات شعبية من تاريخ عدن

> «الأيام» نجمي عبدالمجيد:

>
عدن مدينة التاريخ والحكايات، عاشت وتجاورت فيها المذاهب والأديان والعقائد والشعوب والأفكار، وأفرزت من قصص اللسان الشعبي ما شكل ثروة تاريخية في مجالات الأساطيرو الخرافات والأمثال، وكان لكل فئة معتقداتها في هذا الجانب.

وقد حوت صفحات الأسفار العديد من تلك الحكايات التي تدخل في إطار الذاكرة الجماعية للأمة، فهي جزء من الهوية والانتماء للمكان، والسند الروحي لما يتصل بالرؤية العقائدية، وعدن مدينة بحرية الحياة فيها متحركة لاتقف عند فاصل يحد من قدرتها على التجدد، والميناء بالنسبة لها الرئة التي تغذي نبض الحياة فيها، لذلك كان للحكاية الشعبية في عدن مكانة في تاريخها.

عدن ميناء اليمن والهند

جاء في كتاب (قلائد الجمن في ملوك عدن وصنعاء اليمن) لمؤلفه محمد عبدالمجيد، الصادر في الهند عام 1911م في تعريف عدن، بأنها سوق شهير جدا يجلب منها الهند خيلهم وإليها تحمل أكثر العطريات، وكذلك البضائع المعدة للسفر إلى بلاد الإفرنج، ومنها ترسل عبر البحر الأحمر في سفن صغيرة، وفي مراكب كبيرة تصل إلى السويس، وتحمل برا إلى الإسكندرية، وكانت فترة الرحلة من عدن إلى السويس بحرا 20 يوما. وقال ابن رفاعة: «وإذا مررنا بالبوغاز وجدنا مدينة عظيمة تدعو الناس إلى النظر إليها، وهي عند العبرانيين عِدنا (بكسر العين) وعند العرب عَدن (بفتحها)، وقد ذكرها أهل التواريخ بلفظ عدن (بفتح العين)، ونقول: لا مانع من أن عدنا عبارة عن الميناء الذي يسمى عربيا، فمنذ قرون كانت عدن مركز تجارة الهند، فهي التي كانت تستعمل محطا للسفن التي كانت تذهب إلى بلاد الهند، وكان ميناء مدينة سباطا المسمى عند المتأخرين (مأرب) التي هي قاعدة بلاد حضرموت، وكان أحد ملوك حضرموت يصل حكمه إلى سقطرة التي يجلب منها الصبر السقطري المشهور.

قال ابن الوردي: «إن عدن مدينة لطيفة، وإنما شهر اسمها لأنها مرسى البحرين، ومنها تسافر مراكب السند والهند والصين، وإليها تجلب بضائع هذه الأقاليم من الحرير والسيوف والكيمخت والمسك والعود والسروج والأمتعة والحرارات والعطريات والطيب والعاج والأبنوس والحلل والثياب المتخذة من الحشيش الذي يفخر على الحرير والديباج، والقصدير والرصاص واللؤلؤ والحجارة المثمنة والزباد والعنبر، إلى ما لانهاية له. ويحيط بها من شمالها جبل دائر من البحر إلى البحر، وفي طرفيه بابان يدخل منهما».

من حكايات عدن وأخبار أهلها

يذكر المؤلف نقلا عن العلامة أبي بكر محمد بن محمد بن الوليد الفهري الطرطوسي المالكي في مصنفاته سراج الملوك، قال الخضر بن علي: «رأيت في عدن حجرا مكتوب عليه بالحميرية، (أيها الشديد احذر الحيلة، أيها العجول احذر التأني، أيها المحارب تأيس من الفكر في العاقبة، أيها الطالب موجودا لاتقطع أملك من بلوغه)».

ذكر الشيخ عبدالله بن أسعد اليمني، الذي أخبر العلامة سالف الذكر، أنه كان بعض الناس في ساحل بحر عدن فأغلق باب البلد دونه فلم يقدر أن يدخل، فبات في الساحل ولم يكن له عشاء، عندما شاهد الشيخ ريحان في الساحل فجاء إليه وقال: «ياسيدي أغلقوا الباب دوني وما معي عشاء، وأنا أشتهي أن تطعمني هريسة!

فقال الشيخ ريحان: «انظروا إلى هذا يطلب مني العشاء، ويريد أيضا الهريسة، كأني كنت مهرسا أصنع الهريسة! فقال له: ياسيدي لابد أن تطعمني ذلك! قال: فلم أشعر إلا والهريسة حاضرة حارة في الحال.

فقلت: ياسيدي بقي السمن، فقال: انظروا هذا الفاعل التارك، وما يرضى يأكل الهريسة أيضا إلا بالسمن، فأنا كنت سمانا أبيع السمن!

فقلت: ياسيدي ما آكلها إلا بسمن!

فقال: اذهب بهذه الركوة إلى البحر، وأت بما أتوضأ به.

قال: فذهبت إلى البحر فغرفت منه في الركوة، وجئت به فأخذ مني الركوة فصب منها سمنا على الهريسة، فأكلت من ذلك ولم أذق مثله قط!.

وذكر العلامة بامخرمة أن الشيخ ريحان كان عبدا حبشيا أعتقه بعض أهل عدن، وقد ذكرت بعض مصادر القصص الشعبية أن له كرامات خارقة ومكاشفات صادقة، قال عنه الإمام عبدالله بن أسعد في بعض مؤلفاته: «سمعت القدماء من أهل عدن يقولون: رأيت الشيخ يفعل شيئا يكره، فقلت في نفسي هذا الفاعل التارك الذي يقال له صالح يقدم على هذه المنكرات، فاحترق بيتي في تلك الليلة بالنار».

ومنها عن بعض أهل عدن قال: «خرجت ليلة أشتري حاجة من السوق، فلقيني الشيخ ريحان، فجرني وارتفع بي في الهواء ارتفاعا عظيما فبكيت، وقلت له ردني! فردني إلى الأرض. وقال: أردت أن أفرجك مالا رأيت».

ومن الحكايات الشعبية التي يقدمها المؤلف محمد عبد المجيد، حكاية الشيخ جوهر بن عبدالله العدني الصوفي، كان عبدا عتيقا في سوق عدن، وله فيها دكان مشهور، يحب الفقراء بشكل كبير، وقد جاء عنه في الكتاب المذكور: «له من الكرامات وخوارق العادات ما لايحصى، وحصلت له العناية من الله تعالى بالطائر الموصوف الذي حطّ على رأسه، وتشوقت مشائخ زمنه للمشيخة، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، فلم يرتفع ذلك الطائر إلا بعد أن تم الكلام، إنه هو الشيخ، فبكى وقال: أنا رجل جاهل لا أصلح لهذه المشيخة ولا أعرف الطريق.

فقالوا له: ما أقامك في هذا المقام إلا وأنت أهل لذلك، ويعلمك ما تجهل، ويأتيك التوفيق. فقال: فإن كان ولابد لي فأمهلوني ثلاثة أيام أسعى في براءة ذمتي برد الحقوق التي للناس علي، وأتخلص منهم. فأمهلوه، فلما مضت الثلاثة الأيام قعد في منصب المشيخة.

ويحكي أنه كان له هرة، وكان إذا أتى الضيفان إلى المسجد راحت الهرة إلى البيت، وصاحت بعدد الضيفان فيخبز أهل البيت بعدد الضيفان أقراصا.

وفي بعض الأيام خبزوا بعدد ما صاحت، فوجدوا الضيفان زائد على العدد، أي على عدد الأقراص باثنين، فعجبوا من اختلاف عادتها، ثم لما أتى النقيب بالخبز ليفرقه على الضيفان هرت الهرة في وجه اثنين منهم، وكلما أراد النقيب أن يعطيهما شيئا من الخبز حالت بينهما وبينه، فرفع الأمر إلى الشيخ فطلبهما واستخرج الصدق من حقيقة حالهما، فأخبرا أنهما نصرانيان خرجا من بلادهما مستترين بالإسلام، وأنه لايكشف حالهما إلا مع الشيخ، وأسلما على يده».

قرية رباك بظاهر عدن

من الأماكن التي غابت معالمها عن جغرافية عدن، قرية رباك، التي ذكرها المؤلف في كتابه، ومن خلال وصفه لها نجد موقعها في الشيخ عثمان، ولكن في أي منطقة فيها لانعرف، لأن مؤلف الكتاب يشير إلى أن معالم تلك القرية قد زالت من الوجود، ولم يبق منها غير الشيء القليل من آثارها، وبعض قبور الأولياء التي يزورها أهل عدن.

وقد ذكر عنها بأنها قرية عامرة، بها بساتين وآبار مياه عذبة، ويزرع بها الموز والنارجيل، وهي في الغدير، ويقال إن الناخوذة عمر الآمدي غرس شجرة تسمى (تشكي) وهو شجر ينبت من بدن الشجرة، خلاف باقي الأشجار، كما ينسب غرس هذا الشجر إلى شخص عرف بالتركي، ويقال بأنه غرسه في عام 625هـ وحفر بها برك، كما حفر بها رجل اسمه الأسد في سالف الدهر، وكان الناس يقصدون هذه القرية من أبين وإلى لحج، وما يحيط بها من قرى في أول شهر رجب، ومعظم شجرها من النخل والكثير منها لأهل عدن، وكان رجل عرف باسم الصالح قاسم بن محمد العراقي كثير الخروج إليها ويختلي بها، ويقيم بها عدة أيام ويقيم ذكر المولد النبوي الشريف، على صاحبه أفضل الصلاة والسلام، حيث يحضر فضلاء الناس مثل الشريف عمر بن عبدالرحمن باعلوي والفقيه محمد بافضل والشريف سعيد.

وكان يوجد في قرية رباك مسجد وبركة كبيرة، ولما انهزم سليمان الرومي وصاحبه حسين الكردي من بندر عدن ورجعوا عنها، وذلك في شعبان 922هـ، قصد جماعة من أصحاب الأمير سليمان إلى قرية رباك يستسقون منها، وكان السلطان عبدالملك عبدالوهاب قد أعدّ لهم جنودا من العرب لمنعهم من شرب الماء، فدارت بينهم معركة انكسر فيها جنود الأمير سليمان، فهرب مع جماعة من جنوده إلى حظيرة في تلك القرية، وهم تحت الحصار وبقوا فيها ما بين الموت حصارا، والوقوع في الأسر، غير أن أحد رجاله رمى بسلاحه على العرب فأصاب عددا منهم، وقتل شخصا، فانفضت العرب عن الحظيرة وخرج مع رجاله إلى سفنهم.

حكايات عن المكان والناس

يقدم لنا الكتاب من حكايات المكان والناس عن عدن ما غاب عن ذاكرة الأيام من ذلك الزمان، ومما جاء في الكتاب حول أول من فتح باب عدن، هو شداد بن عاد، حيث جعل عدن حبسا لمن يغضب عليه، وظلت هكذا حتى آخر دولة الفراعنة، وكذلك التبابعة باليمن.

وقد جاء اسم عدن نسبة إلى أول رجل سجن فيها، ويشير إلى أن ما بين جبل حقات وجبل صيرة ماء معجلين، وهذا المكان واسع الشهرة عند أهل عدن الذي بني عليه دار المنظر، وهو ذو أمواج كبار هائلة. وكان يقال: إنه إذا برد الماء بها يكون العام شديدا على كل من يقطع الصباح، أما إذا كان الماء فاترا فيكون العام طيبا سهلا يسيرا غير عسير على مسافره. وقد جاء عن أهل عدن في ذلك الزمان: إن هذا المكان إذا ازدادت فيه الأمواج وكثر المد، يخرج أهل عدن من الصيادين وغيرهم ويتفاءلون به، ولابد أن يموت أحدهم بغرق أو يسقط، ويقولون أن هذا المحل يأخذ كل سنة واحد، وقد مات فيه الكثير من صبيان أهل عدن.

ويصل الحديث عند بير في قعرها نار موجودة في جبل صيرة، وأنها كامنة فيه، وأن بعض الناس من عدن أنزل فيها حبلا فخرج طرفه محترقا، وقال البعض: إنها نار تخرج من البير التي كانت في سوق الصباغ والصيارف. ويقدم لنا المؤلف حكاية نقلا عن الشيخ أبو محمد عيسى الأندلسي في كتابه (عنوان الأخبار): «إن رجلا من أهل خراسان كان ساكنا مكة، وكان رجلا صالحا كثير الاجتهاد في العبادة والخير، وكان الناس يودعونه الودائع، فأودعه رجل عشرة آلاف دينار في بعض أسفاره، ثم رجع إلى مكة فوجد الرجل الخراساني قد مات، فسأل أهله وأولاده عن الوديعة التي له، فقالوا: لم يكن لنا بها علم، فخرج الرجل إلى جماعة من أهل العلم والزهد بمكة المشرفة، وشكى حاله وأمره إليهم، فقالوا: نحن نرجوا أن يكون ذلك الرجل من أهل الجنة، ولكن قم في الليل إذا مضى نصفه أو ثلثه وادخل إلى بير زمزم ونادي بأعلى صوتك: يافلان يا فلان! أنا فلان صاحب الوديعة فما فعلت بها؟ فقال الرجل ذلك ثلاث مرات ثلاث ليال، فلم يجبه أحد، فرجع إلى القوم وأخبرهم بذلك، فقالوا إنا لله وإنا إليه راجعون، نخشى أن يكون الرجل من أهل النار، ولكن سر إلى اليمن وإلى وادٍ في عدن يقال له (برهوت)، وفيه بير فاطلع برأسك إذا مضى من الليل نصفه أو ثلثه، ونادي يافلان يافلان! أنا فلان صاحب الوديعة، فما فعلت بها؟ ومضى الرجل وفعل ما أمروه فأجابه في أول صوت، فقال له: هي على حالها، وإني لم آتمن عليها أهلي ولا ولدي، وإني دفنتها في داري في موضع كذا وكذا، وقل لأولادي يدخلوك داري، ثم ادخل البيت الفلاني واحفر في المكان الفلاني في موضع كذا وكذا، فإنك تجد المال على حاله، فقال: ويحك ما بالك هاهنا، وقد كنت من أهل الخير والصلاح؟ فقال له كان لي أهل وقرابة وأرحام في خراسان فقطعتهم، ولم أصلهم حتى مت، فأخذني ربي بذلك وأنزلني هذه المنزلة. فرجع الرجل إلى مكة فوجد ماله على حاله لم ينقص منه شيء، فعليكم بصلة الأرحام أيها الإخوان».

ومن أماكن عدن، يذكر المؤلف (المكسر) وهو عبارة عن قنطرة نسب زمن بنائها إلى الفرس الذين حكموا عدن، وكانت على سبع قواعد، كما نسبتها الحكايات الشعبية إلى زمن شداد بن عاد، وكذلك إلى العجم لما أطلقوا البحر، وإلى رجل جبلي في عام 500 يسمى (المزف)، وكان طول هذه القنطرة 300 ذراع و60 خطوة، وقد خربت وجدد عمارتها الشيخ عبدالله بن يوسف بن محمد التلمساني العطار، وكان الناس في عدن لايمرون من هذا المكان إلا بسنابيق بحرية، وكذا نقل مياه الشرب والحطب إلى جبل حديد، والمسافة نصف فرسخ، وكانت توجد قرية صغيرة تحت عدن تعرف باسم (حصن المياه)، بينها وبين عدن أربعة فراسخ تعرف باسم (الحسوة)، ويشير الكاتب بأنها سميت بهذا الاسم لأن من خرج من عدن سائرا يقيم بها إلى أن تتكامل بقية الرفقة، وبعد ذلك يسيرون جميعا، وكذلك القوافل الداخلة إلى عدن كانت تقيم بها وتستعد للدخول حيث يغتسل أصحابها ويلبسون الثياب وإلى غير ذلك، وقد سميت أيضاً باسم (كور)، وكان بها دكاكين ومنازل، وغالبية سكانها يعملون في صيد الأسماك، وكذلك يحرقون النورة، وكان بها مسجد قديم العمارة وخرب، فجدده السلطان صلاح الدين بن عامر بن عبدالوهاب.

كانت بيوت عدن في تلك الحقبة من الزمان تعمر من مادة الخوص لقلة الأحجارفيها، ومن بعد نقلت الأحجار من أبين إلى عدن، وكان للعبيد والإماء دور من خلال استخدامهم في قطع الأحجار من الجبال التي استخدمت في بناء القلاع التي في عدن.

في عهد الأمير أبو الحسن الضحاك- كما يذكر مؤلف الكتاب- ومن بعده جاء الأمير عثمان الزنجبلي الذي أحاط مدينة عدن بالأسوار، وأصلح أسواقها والدكاكين والفرضة والبندر، وكانت الفرضة على ناحية من جبل صيرة، غير أن أحوال الدهر وتقلبات الحياة لا تبقي الحال، فقد جار بعض الملوك في حكمهم فهرب التجار من عدن إلى جدة وإلى منيبار وإلى الهند، وأول من هرب من التجار من أهل عدن صلاح بن علي الطائي، وكان ابن الوردي قد وصف عدن بأنها مدينة لطيفة، وإنما شهر اسمها لأنها مرسى البحرين، ومنها تسافر مراكب السند والهند والصين، وتجلب إليها بضائع هذه الأقاليم المختلفة.

وقيل: إن مدينة عدن هي على شط بحر الهند، ولها مرساة أمينة للسفن، كانت لها تجارة واسعة بين الشرق والغرب.

وتظل عدن حكاية من قصص التاريخ، وبما سطر عنها في الأسفار عبر حقب الزمان، وهناك الكثير مما ترسخ في الوجدان وفي كيان شعب وذاكرة مدينة، ويظل التاريخ الاجتماعي بكل أنواعه لهذه المدينة بحاجة لمن يسطر بقاياه التي غابت صورها ومعالمها عن اللسان الشعبي، بعد أن رحلت أجيال عن هذه الحياة، وحملت معها الكثير من تلك الحكايات التي لو جمعت لشغلت العديد من المجلدات، ولكونت ثروة وجانبا من تاريخ عدن الشعبي الذي تفرز كل مرحلة منه قصصها وحكاياتها وخرافاتها لتعطي للناس ملامح عن كل فترة عاشتها هذه المدينة في الوجدان والذاكرة.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى